مقدمـــــــــة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين ، و على آله و صحبه ، و كل عباد الله الصالحين .
و بعد، إن ما يتميز به عصرنا عن سالفه من العصور ، احتكاك الأمم المختلفة و الشعوب المتباينة فيما بينها ، احتكاكا لم يسبق له مثيل ، بسبب وسائل التواصل و الإعلام التي قلصت المسافات و سهلت الاطلاع على المعلومات الكثيرة في أقل الأوقات ؛ مما جعل كل أمة ملزمة أن تبني لنفسها صرحا من المقومات على أساس متين ، في جميع المجالات و الميادين ، إن كانت لا تريد أن تداس بالأقدام و يفوتها الركب المسرع في خطاه مع كل دقائق الزمان .
و أمتنا الإسلامية ، و هي إحدى هذه الأمم ، أولى من غيرها أن تقوم بذلك ، لأن لها سندا إلهيا لا يبارى و هديا نبويا لا يجارى ، من دون أخواتها في الإنسانية : لها الوحي الذي بين لها ما تفعل و كيف تفعل ، من أين تبدأ و إلى أين تنتهي ، فما عليها حياله إلا أن تنهل من معينه العذب ، و لها فيه غنية عن سواه من بنات أفكار البشر إن هي تفطنت .
غير أن أمتنا على العموم ، أصيبت بالوهن ، مؤقتا ، ذلك الوهن الذي ترجع أسبابه من جهة ، إلى عدم التزامها بدينها التزاما يفتح لها أبواب كنوزها ، و من جهة أخرى إلى التشكيك الذي تتعرض له في هذا الدين عينه ، إما من قبل أعدائها الأجانب عنها ، أو ممن تأثروا بهؤلاء من أبنائها .
و مما يلاحظ من خلال ما يروجه هؤلاء و أولئك من أغاليط و أباطيل ، أنهم يتخذون العقل و العقلانية وسيلة لإقناع الأمة ، سالكين في ذلك سبلا من الفكر قد تشتبه على من لا يحسن النظر فيها .
فصار البعض يدعو إلى تجاوز للدين ، ذلك أنه عنده من نتاج البشر في حقبة معينة من الزمان لظروف معينة ، كان العقل البشري لا يزال فيها في مرحلة الطفولة التاريخية ، و بما أنه الآن في زعمهم قد قطع أشواطا كبيرة ، صار لزاما عليه ، تماشيا مع مبلغ رشده ، أن يلقي بالدين في ذاكرة التاريخ متمسكا بالعقل الذي يمكّنه من استكشاف غياهب المستقبل الذي لا تلوح له نهاية في أفقهم .
و لنفصح عنها بصراحة : صاروا يستحيون من التدين و إظهار ذلك أمام هذا العقل الوقح الذي لا يرحم من لا يحسن الدفاع عن نفسه .
فنتج عند البعض تدين خجول ، يقر للعقل بسيادته المطلقة أو شبه المطلقة ، و يستسمحه في أن يمن عليه بأويقات يمارس فيها شعائر صارت عنده غالبا تراثا محترما مدرجا ضمن المقدسات التي يجب الحفاظ عليها ، تلك المقدسات التي صارت دائرتها تتسع يوما عن يوم ، حتى صار منها ما هو أممي أو قومي أو وطني : من هذه المقدسات ما هو فرائض ، سميت باصطلاحهم حقوقا ، كحقوق الجماعات و حقوق الإنسان الفرد (إنسانهم) بأركانها المتعلقة بالمرأة و الطفل و غيرهما (ما لم يكونا مسلمين) ، و منها نوافل كالأيام المنظمة للاحتفال و الاحتفاء بهذه البدعة أو تلك ، و ذلك كيوم الأم و يوم المسرح و غيرهما من الأيام ؛ و مستحبات كالمؤتمرات العالمية أو القارية التي تسن السنن و تبين بيان تفصيل ما سبق أن شرعت .
إنه شرع " العولمة " الذي نزل به العقل المتقدم حسب قولهم …هذه العولمة التي لن تكون اقتصادية فقط ، على ما يبدو !
فمن آمن فهو عاقل ، و من كفر فهو متخلف جاهل .
و بما أن هذا العقل عندهم عليم خبير ، بدأ ينظر في الدين (التراث ) نظرة مراجع و مصحح ، حتى يجد له حلة جديدة مفصلة على القياس العصري حسب أحدث صيحات الموضة الفكرية .
من ذلك : أن إلزام العقل بالدين ظلم له و تقييد ، و أن العفة آثار لعقد نفسية علينا التخلص منها ، و ان ستر المرأة جسدها ظلم لها و استنقاص من إنسانيتها ، و الرجوع إلى حكم الله في الأشياء ظلمانية يجب التحرر منها . و ليتهم أفصحوا و قالوا : يا أيها الناس اكفروا بما كنتم عليه ، و آمنوا بما جئناكم به ، ربما لتنبه البعض منا إلى خطورة الوضع ، و لكنهم حاوروا و داوروا . و ما هذه إلا البداية !… …كل هذا باسم "السيد العقل" ، و المسلمون غافلون عن أسباب قوتهم ، يحاولون مجابهة الأعاصير بحولهم و قوتهم . و الخصم المتعقلن يفاخرهم بمنجزاته التكنولوجية و أسلحته النووية و اكتشافاته الجينية ، و كأنها معجزات شرعه .
والمسلم حائر ، أيجابه كل ذلك بالدين ؟! بالوحي !
أحَياءً من " السيد العقل" أم خوفا ؟… هذا التخاذل !
ووالله لو رضي المرء بالحمق مع تمسك بالدين عن إيمان و يقين ، لكان أعز له و أكرم ! و لو وثق بربه و تمسك بحبله ، لكان له أنجى و أسلم
و توضيحا للأمر و اجتلاء له ، ارتأينا تأليف هذا الكتاب ، راجين من الله أن يسددنا فيه على الحق ، و أن يؤيدنا فيه بعونه و قوته ، راغبين
في رفع اللبس الذي يحيط بالعقل ، جاعلين الكلام فيه على ثلاثة أبواب :
أولها : العقل المجرد .
ثانيها : العقل المعضد .
ثالثها : مثبطات العقل لدى الأمة .
سائلين الله تعالى القبول ، و النفع للكاتب و القرئ ، إنه أهل الفضل و الكرم .
و الله المستعان .
جرادة ، في ليلة الخميس الفاتح من المحرم لسنة إحدى و عشرين
و أربعمائة و ألف للهجرة الشريفة ـ 2000م.
تـمـهـــــــيد
في أثناء تناولنا للعقل بجميع مراتبه ، سيلاحظ القارئ أننا لا نحذو في ذلك حذو من تعرض لهذا الموضوع بالاستناد إلى ما تعارف عليه معاصرونا ، برجوعهم غالبا إلى علماء الغرب الذين لا ينطلقون من نفس منطلقنا ، متأثرين في ذلك ببيئة غير بيئتنا و ملة غير ملتنا .
من ذلك : العقل عند غيرنا لا يتصل بالدين ، بل و لا يجب أن يتصل به ، خلافا لما هو الأمر عليه في الحقيقة .
و من ذلك : النفس : فهي عند علماء النفس ، تعني مجال دراسة البواعث و مختلف السلوكات المترتبة عنها ، و الآثار الناجمة عنها ، بينما هي عندنا تعني العقل كعقل ، لكن باعتبار خاص سنبينه من خلال هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
ثم إننا في خلال هذا العرض ، سنتجاوز بعض المصطلحات الوضعية التي نراها بعيدة في دلالتها عن المعنى الذي نرمي إليه ، مستعيضين في ذلك بما يؤدي المعنى من الكلمات .
و بما أننا نتوخى معرفة الحقائق المرتبطة بالعقل ، فإننا لن نُغرق في التعابير المتشعبة ما استطعنا ، محاولين مباشرة المعاني بلغة هي أقرب ما تكون إلى البساطة و الوضوح ، و نعني بهما : النفوذ .
لذلك نرجو من القارئ ، أن لا يقيس كل ما نكتبه على ما سبق أن اطلع عليه عند غيرنا ، إلا إذا توصل إلى إدراك المعاني التي نقصدها على الوجه الذي نريده . كما نشير إلى أن استعراضنا لمراتب العقل ، سيكون وسطا بين الاختصار و التطويل ، إذ لو أردنا استقصاء أغلب التفاصيل المندرجة ضمن دائرة العقل ، لاحتاج ذلك إلى أجزاء عديدة ، و نحن نريد فقط ، من خلال هذا العمل ، أن ننبه القارئ إلى الموضوع ، و أن نثير فيه الرغبة في استكشاف آفاق العقل بنفسه ، لأنه لا يفيد في هذا الاستكشاف غير ذلك .
و الله الموفق
البـاب الأول: العـقـل المـجـرد
الفصل الأول : تعريف العقل :
1 . العـقل لـغـة و اصـطـلاحا:
ا ـ العقل لغة :
يرجع معنى " عقل " في الغالب إلى : فهم ، أمسك ، حبس ، شد . و اسم الفاعل منه عاقل ، و مصدره عقل
ب ـ العقل اصطلاحا :
هو القوة المدركة من الإنسان ، به يدرك الأشياء و يميزها على تفاوت بين الأشخاص في هذه القوة : فمنهم عاقل و منهم أعقل . و العقل على التحقيق هو : باطن الإنسان و غيبه الذي نشهد أثره و لا نشهده ، و هو الذي يُكسب الإنسان صفته الإنسانية من بين باقي المخلوقات على الأرض ، و هو المخاطَب و المكلف من الإنسان ، و المتحكم و الموجه لسائر أعضاء هذا الإنسان .
2 . مآخذ العقل :
أولا : الحواس:
إننا لنجد من أوضح معاني العقل : الحبس و التقييد ، إذ إن العقل عند إدراكه الكون ، إنما يقتبس عينات مقيدة يضبطها عبر حواسه ، و لا يمكنه إدراك كل الموجودات على الإجمال .
فالعقل عبر الحواس ، و هي أولى مآخذه ، إنما يدرك بالعين مثلا ، ما يدخل تحت إحاطتها ، و يغيب عنه ما يخرج عن تلك الإحاطة . و لذلك فهو لا يدرك عظائم المخلوقات كالسماء أو البحر على العموم ، كما تغيب عنه في مقابل ذلك دقائق المخلوقات و صغارها كالخلايا أو الذرات . فهو إذن ، لا يتمكن من إدراك كل المبصرات بالعين ، و إنما يدرك جزءا معينا من تلك المبصرات ؛ كما يدرك بواسطة الأذن مجالا معينا من الأصوات و يغيب عنه منها ما يخرج عن هذا الإدراك ، مما هو أعلى من ذلك المجال أو أدنى .
و قس على هذا باقي الحواس ، من شم و ذوق و لمس .
بل إن مدارك العقل نفسها ، تختلف باختلاف الأشخاص ، كأن تجد شخصا يستطيع إبصار ما لا يبصره غيره ، أو أن يسمع ما لا يتمكن من سماعه غيره . بل قد يتعدى اختلاف هذه المدارك حدود الإنسان إلى الحيوان ، الذي يشترك معه في هذا المأخذ الأول للعقل : فتجد حيوانا ما ، يدرك بحاسة من حواسه ما لا يدركه الإنسان بنفس تلك الحاسة .
و على هذا ، فإن المعنى اللغوي للعقل الذي يفيد التقييد ، يصدُق على عقل الإنسان كقوة إدراك من حيث هذا المأخذ .
ثانيا : الفكر :
التفكر عملية يتميز بها الإنس و الجن عن بقية المخلوقات : و هي من أحب الأعمال إلى العقول و العقلاء ، إذ تعطيهم لذة عظيمة أثناء تصرفهم في المعلومات ، تصرف السيد في عبيده ، و الملك في مملكته .
قد تسبب هذه اللذة الناتجة عن التفكر إدمانا لصاحبها ، و قد تجعله شديد التعصب لها ، بل و قد تسترقه و تصيّره عبدا لها لا يستطيع الخلاص منها .
و كما أن العقل مقيد من حيث المأخذ الأول الذي هو الحواس ، فإنه مقيد كذلك من حيث الفكر ، كما سنبين ذلك إن شاء الله ، عند بسط هذه العملية بالتفصيل . و نكتفي هنا بضرب أمثلة على التقيّد :
ـــ إن العقل من حيث الفكر قد يقع في الغلط ، فتجد أن ما توصل به عقل ما إلى نتيجة ما ، يتوصل به عقل آخر إلى نتيجة أخرى مغايرة ، فيكون أحد العقلين بهذا غالطا ، إن لم يكونا معا ، و يكون الغلط بالتالي ، نقصا في احتمالات الصواب ، مما يعطي للعقل محدودية كما تقدم .
ـــ إن عملية التفكر لا تفيد كثيرا فيما وراء الحس (المعاني التي وراء الحس) ، فتجد العقل هنا لا يكاد يضبط ما يتفكر فيه ، فتكون بذلك أغلب نتائجه مظنونة .
ـــ إن لعملية التفكر ضوابط و شروطا تحكمها ، قد لا يحسن الالتزام بها كل عقل ، أو قد لا تتوفر لديه ، فيكون الفكر مختلا بقدر عدم إحكام تلك الضوابط و الشروط ، أو عدم توفرها ، فيغيب عن العقل من النتائج ما يتناسب و هذا الاختلال.
ثالثا : المأخذ الثالث :
سنعرض له في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .
3 . أسماء العقل :
ا ـ التسميات المختلفة للعقل :
يتبين من خلال ما سبق ، أن العقل الذي تناولناه ، غير مؤهل لأن يُعتمد عليه بالكلية في جميع ما يريد الإنسان إدراكه على الحقيقة ؛ لذلك وجب الكلام على آفاق العقل المختلفة و بيان خصوصية كل أفق منها .
و في البداية يلزمنا رفع اللبس الذي يحيط بالعقل من حيث تسميات تطلق عليه كمرادفات أو تنسب إليه كصفات ، و هي : النفس والقلب و الروح
فنقول مستعينين بالله :
إن هذه الأسماء في الحقيقة تدل على مسمى واحد ، غير أن هذا المسمى له اعتبارات مختلفة تجعل الناظر إليه باعتبار ما ، يسميه باسم لا يسميه به إذا نظر إليه باعتبار آخر . و إننا نجد أقربها إلى الدلالة على حقيقته و خاصيته الكبرى : القلب . ذلك أن تسمية القلب من التقلب ، و من ضمن التقلب ، التقلب في الأسماء المختلفة . فهو تارة قلب و تارة نفس و أخرى عقل أو روح .
ب ـ الاعتبارات الحاكمة على العقل :
إن حقيقة الإنسان المستوية على التمام بين طرفي النقيض من وجود و عدم ، و نور و ظلمة ، تعطيه تسمية القلب لأنه في كمال قابليته للأمرين معا . و ميل القلب عن درجة الاعتدال تلك ، إلى أحد الجانبين دون الآخر ، يخرجه عن قلبيته و يجعله :
ـــ إن غلبت عليه الظلمة و أحكام العدم ، يصير نفسا بهذا الاعتبار .
ـــ و إن غلب عليه النور و أحكام الوجود ، يصير روحا بهذا الاعتبار .
و هو عقل على كل حال ، بمعنى إضافة الإدراك إليه بصرف النظر عن كونه مخطئا أو مصيبا في هذا الإدراك .
و قد نجد هذه التسميات التي ذكرناها موصوفة بصفات قد تخرجها عن الحد الأصلي لها ، حسب الاعتبارات المذكورة آنفا : كأن نسمع عن القلب المقفل ، فمعناه أنه مقفل عن النور ، فهو هنا إذن نفس ؛ أو كأن نسمع عن النفس المطمئنة ، فهي هنا روح .
إن علمت هذا ، فإنك ستجد لهذه الحقيقة القلبية مرتبتين تفصيليتين بين النفس و القلب ، و بين القلب و الروح ، و ذلك حسب نزول هذه الحقيقة في تينك المنزلتين ، تستلزمان (أي المرتبتان) تسميتين أخريين هما : الفؤاد و الصدر .
و إن عرفت ماذا نقصد بالتسميات ، فقل كما شئت و عبر بما تراه مناسبا .
الفـصـل الـثـاني : العـقـل المـجـرد
1 . صورة مبسطة :
لقد وجد الإنسان نفسه بعد أن لم يكن (الإنسان هنا بالمعنى العام الافتراضي و ليس آدم) ، و جد نفسه مدركا لنفسه ، وسط مخلوقات قد تشبهه من أوجه و تمتاز عنه من أوجه أخرى ، بين سماء و أرض ، يتعاقب عليه ليل و نهار ، تتراوحه أحوال متباينة ، ملائمة لأغراضه تارة ، و غير ملائمة أخرى ؛ و وجد من نفسه انجذابا إلى أشياء حسب هذه الأغراض ، و نفورا من أشياء أخرى ، كما وجد من نفسه قوة تسعفه على التصرف في نفسه أو في غيره من الموجودات ، تبعا لما يعطيه إدراكه . غير أن ذلك لم يكن له دائما على التمام : فقد لاحظ أن الأشياء قد تنصاع له حينا ، و تستعصي عليه آخر : و ذلك كتوفر مصادر الأكل له مثلا في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان ، أو مناسبة نوع من المأكولات له في حال دون حال ؛ فاحتار الإنسان في نفسه : أهو سيد الوجود ، بحيث يكون ما سواه عبيدا مسخرين له يتصرف فيهم كما يشاء ؟ ...فلا يجب أن يستعصي عليه شيء ، و لا أن يخالف إرادته شيء ! أم هو مسخر مثل غيره ، لا يملك من أمره شيئا ؟ فلمن هو مسخر ، و لم هو مسخر ؟ ... و لماذا يجد من نفسه بعض قدرة و بعض تحكم في مقابل ذلك ؟
فصار الإنسان يتوق إلى الوصول إلى حل هذا اللغز الكبير ، و استعمل في ذلك كل قواه الحسية منها و العقلية ، فشرع يرتب معلوماته و يصنفها ، ثم يركبها تركيبا خاصا ينتج له معلومات جديدة ، و صار إدراكه يتطور شيئا فشيئا و يتوسع مع مرور الزمن ، فظن أنه يقترب من الحل ، حل اللغز الذي يحيره .
و إلى جانب تعطشه إلى العلم بحقيقة الأمر ، أو قل قبله ، كان الإنسان يتحرك حسيا و معنويا في هذا الوجود بدافع حافزين اثنين ، هما :
ـــ دفع الضرر .
ـــ و جلب المنفعة .
و كلاهما يندرج تحت معنى واحد هو : المحافظة على بقاء الفس .
فمن قبيل دفع الضرر : احتماؤه من الحر و القر ، و اتقاؤه من الحيوانات التي تكون خطرا على حياته ، إلى غير ذلك من المضار .
و من قبيل جلب المنفعة : توفير المأكل و المشرب للإبقاء على حياته و قوته ، و البحث عن سبل تنمية مداركه ، إلى غير ذلك من المنافع .
لكن من حقق النظر ، يجد أن جلب المنفعة يعود في الأصل إلى دفع الضرر ، فتوفير المأكل و المشرب مثلا ، إنما هو في الأصل لدفع ضرر الجوع و العطش في المرتبة الأولى ، ثم دفع ضرر الموت في المرتبة الثانية ، و هكذا في كل أمر على التفصيل . غير أن إدراك هذا الأمر على سبيل التحقيق ، ليس في مقدرة العقل في هذا الطور .
كما يلاحظ أن النتائج لم تكن دائما موافقة لإرادة الإنسان في هذا المجال : فهو من حيث يريد دفع الضرر ، قد يقع فيه ؛ و من حيث يريد جلب النفع ، قد يجر على نفسه ضررا لم يكن متوقعا لديه .
و مع مرور الزمن ، صارت هذه الصورة المبسطة لمظاهر حياة الإنسان ، تزداد تعقيدا و تشعبا حتى لتكاد تخفى أصولها عن جل العقول . و مع تطور الإنسان ، و توصله إلى تحقيق بعض أغراضه ، صارت الكماليات تتولد عن الضروريات ، ثم تصير الكماليات أشبه بالضروريات . فينطلق الإنسان سعيا وراء تحقيق أغراض و كماليات لا تكاد تنحصر ، إلى أن بلغ الحال إلى ما هو عليه اليوم .
لكن هل خرج الإنسان من حيرته ؟ و هل وجد الأجوبة الشافية عن أسئلته ؟ ذلك ما يشهد على نفيه أغلب ما توصل إليه الإنسان من خلال مسيرته العقلية ؛ باستثناء قلة ممن سنتعرف عليهم في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .
من خلال وظائف العقل الإنساني ، المتعلقة بمختلف مظاهر إسهاماته في تطور الحياة البشرية ، نستخلص خاصيات لهذا العقل ، منها :
ا ـ قدرته على خزن المعلومات .
ب ـ قدرته على تذكر المعلومات المخزونة عند الحاجة إليها .
ج ـ تجريد المدركات الحسية من صورها ، و العبور إلى معانيها : و ذلك كالعبور من صورة المصباح مثلا إلى معنى الإنارة ، و من صورة السلاح إلى معنى القتل .
د ـ خلع صورة محسوسة على المعاني المجردة (التصوير) : و ذلك كمنح معنى الإنارة صورة المصباح ، أو معنى القتل صورة السلاح ، وهي (أي هذه الخاصية) عكس سابقتها ، لذلك هما متكاملتان بالنظر إلى دورهما في العمليات العقلية .
ه ـ التخيل : و هو تركيب مدركات حسية لها أصل في الواقع على هيئة لا توجد عليها في الواقع ، و ذلك كما يفعل مؤلفو القصص الخيالية مثلا ، أو كأن تتخيل إنسانا له رأس ذئب و أذنا حمار و ذنب أسد مثلا .
هذه الخاصيات التي ذكرناها ستعمل على إثراء عملية عقلية رئيسة في هذا الطور ، هي عملية التفكر .
2 . الفكــر :
الفكر هو استعمال معلومات ثابتة الصحة عند العقل للتوصل إلى معلومات جديدة . و أولى المعلومات ثابتة الصحة لدى العقل ، و التي كانت منطلقا لعملية التفكر هي البديهيات التي هي شطر المسلمات ، و التي تقبل العقل صحتها من دون برهنة عليها ، بل هي لا تقبل البرهنة ، و ذلك كإدراك الإنسان لوجود نفسه . بخلاف من أراد الاستدلال على وجوده كما سيأتي . و كعدم اتصاف شيء بنقيضين في نفس الوقت ، الذي هو من المسلمات ، و ذلك كأن تقول : إن الرجل طويل قصير ، أو إن الثوب جديد بال ، هذا مبلغ الفكر .
ثم إن العقل يضم معلومتين تشتملان على عامل مشترك (الحد الأوسط) إلى بعضهما ، فينتج له ذلك علما جديدا لم يكن لديه ، و هذه المعلومة الجديدة يضمها إلى أخرى فتنتج له نتيجة أخرى ، و هكذا ... فالمعلومتان الأوليان اللتان تضمان إلى بعضهما هما المقدمتان ، و المعلومة الجديدة هي النتيجة .
يتضح من هذا ، أن عملية التفكر عملية تسلسلية توالدية ، تنبني على أصل ثابت لدى العقل غير متولد عنه ، إذ لو تولدت عنه لكانت البديهيات مبرهن عنها .
ضوابط الفكر :
إن الفكر الذي يعتمد في مساره طرق البرهنة المعروفة، لا بد أن يتقيد بضوابط و شروط كي يضمن عدم الزلل ، و من ذلك :
ـــ لا بد من علم الأصول و الفروع ، و الكليات و الجزئيات ، و علم النسب المختلفة بين أمرين أو أكثر : كالتقابل و التضاد والتناسب و التوافق و التطابق ، و غير ذلك ...
ـــ تمييز العلوم المهارية العملية من العلوم النظرية الصرف .
ـــ قابلية المراجعة و التدارك و التصحيح .
ـــ قابلية المقارنة مع فكر آخر .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين ، و على آله و صحبه ، و كل عباد الله الصالحين .
و بعد، إن ما يتميز به عصرنا عن سالفه من العصور ، احتكاك الأمم المختلفة و الشعوب المتباينة فيما بينها ، احتكاكا لم يسبق له مثيل ، بسبب وسائل التواصل و الإعلام التي قلصت المسافات و سهلت الاطلاع على المعلومات الكثيرة في أقل الأوقات ؛ مما جعل كل أمة ملزمة أن تبني لنفسها صرحا من المقومات على أساس متين ، في جميع المجالات و الميادين ، إن كانت لا تريد أن تداس بالأقدام و يفوتها الركب المسرع في خطاه مع كل دقائق الزمان .
و أمتنا الإسلامية ، و هي إحدى هذه الأمم ، أولى من غيرها أن تقوم بذلك ، لأن لها سندا إلهيا لا يبارى و هديا نبويا لا يجارى ، من دون أخواتها في الإنسانية : لها الوحي الذي بين لها ما تفعل و كيف تفعل ، من أين تبدأ و إلى أين تنتهي ، فما عليها حياله إلا أن تنهل من معينه العذب ، و لها فيه غنية عن سواه من بنات أفكار البشر إن هي تفطنت .
غير أن أمتنا على العموم ، أصيبت بالوهن ، مؤقتا ، ذلك الوهن الذي ترجع أسبابه من جهة ، إلى عدم التزامها بدينها التزاما يفتح لها أبواب كنوزها ، و من جهة أخرى إلى التشكيك الذي تتعرض له في هذا الدين عينه ، إما من قبل أعدائها الأجانب عنها ، أو ممن تأثروا بهؤلاء من أبنائها .
و مما يلاحظ من خلال ما يروجه هؤلاء و أولئك من أغاليط و أباطيل ، أنهم يتخذون العقل و العقلانية وسيلة لإقناع الأمة ، سالكين في ذلك سبلا من الفكر قد تشتبه على من لا يحسن النظر فيها .
فصار البعض يدعو إلى تجاوز للدين ، ذلك أنه عنده من نتاج البشر في حقبة معينة من الزمان لظروف معينة ، كان العقل البشري لا يزال فيها في مرحلة الطفولة التاريخية ، و بما أنه الآن في زعمهم قد قطع أشواطا كبيرة ، صار لزاما عليه ، تماشيا مع مبلغ رشده ، أن يلقي بالدين في ذاكرة التاريخ متمسكا بالعقل الذي يمكّنه من استكشاف غياهب المستقبل الذي لا تلوح له نهاية في أفقهم .
و لنفصح عنها بصراحة : صاروا يستحيون من التدين و إظهار ذلك أمام هذا العقل الوقح الذي لا يرحم من لا يحسن الدفاع عن نفسه .
فنتج عند البعض تدين خجول ، يقر للعقل بسيادته المطلقة أو شبه المطلقة ، و يستسمحه في أن يمن عليه بأويقات يمارس فيها شعائر صارت عنده غالبا تراثا محترما مدرجا ضمن المقدسات التي يجب الحفاظ عليها ، تلك المقدسات التي صارت دائرتها تتسع يوما عن يوم ، حتى صار منها ما هو أممي أو قومي أو وطني : من هذه المقدسات ما هو فرائض ، سميت باصطلاحهم حقوقا ، كحقوق الجماعات و حقوق الإنسان الفرد (إنسانهم) بأركانها المتعلقة بالمرأة و الطفل و غيرهما (ما لم يكونا مسلمين) ، و منها نوافل كالأيام المنظمة للاحتفال و الاحتفاء بهذه البدعة أو تلك ، و ذلك كيوم الأم و يوم المسرح و غيرهما من الأيام ؛ و مستحبات كالمؤتمرات العالمية أو القارية التي تسن السنن و تبين بيان تفصيل ما سبق أن شرعت .
إنه شرع " العولمة " الذي نزل به العقل المتقدم حسب قولهم …هذه العولمة التي لن تكون اقتصادية فقط ، على ما يبدو !
فمن آمن فهو عاقل ، و من كفر فهو متخلف جاهل .
و بما أن هذا العقل عندهم عليم خبير ، بدأ ينظر في الدين (التراث ) نظرة مراجع و مصحح ، حتى يجد له حلة جديدة مفصلة على القياس العصري حسب أحدث صيحات الموضة الفكرية .
من ذلك : أن إلزام العقل بالدين ظلم له و تقييد ، و أن العفة آثار لعقد نفسية علينا التخلص منها ، و ان ستر المرأة جسدها ظلم لها و استنقاص من إنسانيتها ، و الرجوع إلى حكم الله في الأشياء ظلمانية يجب التحرر منها . و ليتهم أفصحوا و قالوا : يا أيها الناس اكفروا بما كنتم عليه ، و آمنوا بما جئناكم به ، ربما لتنبه البعض منا إلى خطورة الوضع ، و لكنهم حاوروا و داوروا . و ما هذه إلا البداية !… …كل هذا باسم "السيد العقل" ، و المسلمون غافلون عن أسباب قوتهم ، يحاولون مجابهة الأعاصير بحولهم و قوتهم . و الخصم المتعقلن يفاخرهم بمنجزاته التكنولوجية و أسلحته النووية و اكتشافاته الجينية ، و كأنها معجزات شرعه .
والمسلم حائر ، أيجابه كل ذلك بالدين ؟! بالوحي !
أحَياءً من " السيد العقل" أم خوفا ؟… هذا التخاذل !
ووالله لو رضي المرء بالحمق مع تمسك بالدين عن إيمان و يقين ، لكان أعز له و أكرم ! و لو وثق بربه و تمسك بحبله ، لكان له أنجى و أسلم
و توضيحا للأمر و اجتلاء له ، ارتأينا تأليف هذا الكتاب ، راجين من الله أن يسددنا فيه على الحق ، و أن يؤيدنا فيه بعونه و قوته ، راغبين
في رفع اللبس الذي يحيط بالعقل ، جاعلين الكلام فيه على ثلاثة أبواب :
أولها : العقل المجرد .
ثانيها : العقل المعضد .
ثالثها : مثبطات العقل لدى الأمة .
سائلين الله تعالى القبول ، و النفع للكاتب و القرئ ، إنه أهل الفضل و الكرم .
و الله المستعان .
جرادة ، في ليلة الخميس الفاتح من المحرم لسنة إحدى و عشرين
و أربعمائة و ألف للهجرة الشريفة ـ 2000م.
تـمـهـــــــيد
في أثناء تناولنا للعقل بجميع مراتبه ، سيلاحظ القارئ أننا لا نحذو في ذلك حذو من تعرض لهذا الموضوع بالاستناد إلى ما تعارف عليه معاصرونا ، برجوعهم غالبا إلى علماء الغرب الذين لا ينطلقون من نفس منطلقنا ، متأثرين في ذلك ببيئة غير بيئتنا و ملة غير ملتنا .
من ذلك : العقل عند غيرنا لا يتصل بالدين ، بل و لا يجب أن يتصل به ، خلافا لما هو الأمر عليه في الحقيقة .
و من ذلك : النفس : فهي عند علماء النفس ، تعني مجال دراسة البواعث و مختلف السلوكات المترتبة عنها ، و الآثار الناجمة عنها ، بينما هي عندنا تعني العقل كعقل ، لكن باعتبار خاص سنبينه من خلال هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .
ثم إننا في خلال هذا العرض ، سنتجاوز بعض المصطلحات الوضعية التي نراها بعيدة في دلالتها عن المعنى الذي نرمي إليه ، مستعيضين في ذلك بما يؤدي المعنى من الكلمات .
و بما أننا نتوخى معرفة الحقائق المرتبطة بالعقل ، فإننا لن نُغرق في التعابير المتشعبة ما استطعنا ، محاولين مباشرة المعاني بلغة هي أقرب ما تكون إلى البساطة و الوضوح ، و نعني بهما : النفوذ .
لذلك نرجو من القارئ ، أن لا يقيس كل ما نكتبه على ما سبق أن اطلع عليه عند غيرنا ، إلا إذا توصل إلى إدراك المعاني التي نقصدها على الوجه الذي نريده . كما نشير إلى أن استعراضنا لمراتب العقل ، سيكون وسطا بين الاختصار و التطويل ، إذ لو أردنا استقصاء أغلب التفاصيل المندرجة ضمن دائرة العقل ، لاحتاج ذلك إلى أجزاء عديدة ، و نحن نريد فقط ، من خلال هذا العمل ، أن ننبه القارئ إلى الموضوع ، و أن نثير فيه الرغبة في استكشاف آفاق العقل بنفسه ، لأنه لا يفيد في هذا الاستكشاف غير ذلك .
و الله الموفق
البـاب الأول: العـقـل المـجـرد
الفصل الأول : تعريف العقل :
1 . العـقل لـغـة و اصـطـلاحا:
ا ـ العقل لغة :
يرجع معنى " عقل " في الغالب إلى : فهم ، أمسك ، حبس ، شد . و اسم الفاعل منه عاقل ، و مصدره عقل
ب ـ العقل اصطلاحا :
هو القوة المدركة من الإنسان ، به يدرك الأشياء و يميزها على تفاوت بين الأشخاص في هذه القوة : فمنهم عاقل و منهم أعقل . و العقل على التحقيق هو : باطن الإنسان و غيبه الذي نشهد أثره و لا نشهده ، و هو الذي يُكسب الإنسان صفته الإنسانية من بين باقي المخلوقات على الأرض ، و هو المخاطَب و المكلف من الإنسان ، و المتحكم و الموجه لسائر أعضاء هذا الإنسان .
2 . مآخذ العقل :
أولا : الحواس:
إننا لنجد من أوضح معاني العقل : الحبس و التقييد ، إذ إن العقل عند إدراكه الكون ، إنما يقتبس عينات مقيدة يضبطها عبر حواسه ، و لا يمكنه إدراك كل الموجودات على الإجمال .
فالعقل عبر الحواس ، و هي أولى مآخذه ، إنما يدرك بالعين مثلا ، ما يدخل تحت إحاطتها ، و يغيب عنه ما يخرج عن تلك الإحاطة . و لذلك فهو لا يدرك عظائم المخلوقات كالسماء أو البحر على العموم ، كما تغيب عنه في مقابل ذلك دقائق المخلوقات و صغارها كالخلايا أو الذرات . فهو إذن ، لا يتمكن من إدراك كل المبصرات بالعين ، و إنما يدرك جزءا معينا من تلك المبصرات ؛ كما يدرك بواسطة الأذن مجالا معينا من الأصوات و يغيب عنه منها ما يخرج عن هذا الإدراك ، مما هو أعلى من ذلك المجال أو أدنى .
و قس على هذا باقي الحواس ، من شم و ذوق و لمس .
بل إن مدارك العقل نفسها ، تختلف باختلاف الأشخاص ، كأن تجد شخصا يستطيع إبصار ما لا يبصره غيره ، أو أن يسمع ما لا يتمكن من سماعه غيره . بل قد يتعدى اختلاف هذه المدارك حدود الإنسان إلى الحيوان ، الذي يشترك معه في هذا المأخذ الأول للعقل : فتجد حيوانا ما ، يدرك بحاسة من حواسه ما لا يدركه الإنسان بنفس تلك الحاسة .
و على هذا ، فإن المعنى اللغوي للعقل الذي يفيد التقييد ، يصدُق على عقل الإنسان كقوة إدراك من حيث هذا المأخذ .
ثانيا : الفكر :
التفكر عملية يتميز بها الإنس و الجن عن بقية المخلوقات : و هي من أحب الأعمال إلى العقول و العقلاء ، إذ تعطيهم لذة عظيمة أثناء تصرفهم في المعلومات ، تصرف السيد في عبيده ، و الملك في مملكته .
قد تسبب هذه اللذة الناتجة عن التفكر إدمانا لصاحبها ، و قد تجعله شديد التعصب لها ، بل و قد تسترقه و تصيّره عبدا لها لا يستطيع الخلاص منها .
و كما أن العقل مقيد من حيث المأخذ الأول الذي هو الحواس ، فإنه مقيد كذلك من حيث الفكر ، كما سنبين ذلك إن شاء الله ، عند بسط هذه العملية بالتفصيل . و نكتفي هنا بضرب أمثلة على التقيّد :
ـــ إن العقل من حيث الفكر قد يقع في الغلط ، فتجد أن ما توصل به عقل ما إلى نتيجة ما ، يتوصل به عقل آخر إلى نتيجة أخرى مغايرة ، فيكون أحد العقلين بهذا غالطا ، إن لم يكونا معا ، و يكون الغلط بالتالي ، نقصا في احتمالات الصواب ، مما يعطي للعقل محدودية كما تقدم .
ـــ إن عملية التفكر لا تفيد كثيرا فيما وراء الحس (المعاني التي وراء الحس) ، فتجد العقل هنا لا يكاد يضبط ما يتفكر فيه ، فتكون بذلك أغلب نتائجه مظنونة .
ـــ إن لعملية التفكر ضوابط و شروطا تحكمها ، قد لا يحسن الالتزام بها كل عقل ، أو قد لا تتوفر لديه ، فيكون الفكر مختلا بقدر عدم إحكام تلك الضوابط و الشروط ، أو عدم توفرها ، فيغيب عن العقل من النتائج ما يتناسب و هذا الاختلال.
ثالثا : المأخذ الثالث :
سنعرض له في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .
3 . أسماء العقل :
ا ـ التسميات المختلفة للعقل :
يتبين من خلال ما سبق ، أن العقل الذي تناولناه ، غير مؤهل لأن يُعتمد عليه بالكلية في جميع ما يريد الإنسان إدراكه على الحقيقة ؛ لذلك وجب الكلام على آفاق العقل المختلفة و بيان خصوصية كل أفق منها .
و في البداية يلزمنا رفع اللبس الذي يحيط بالعقل من حيث تسميات تطلق عليه كمرادفات أو تنسب إليه كصفات ، و هي : النفس والقلب و الروح
فنقول مستعينين بالله :
إن هذه الأسماء في الحقيقة تدل على مسمى واحد ، غير أن هذا المسمى له اعتبارات مختلفة تجعل الناظر إليه باعتبار ما ، يسميه باسم لا يسميه به إذا نظر إليه باعتبار آخر . و إننا نجد أقربها إلى الدلالة على حقيقته و خاصيته الكبرى : القلب . ذلك أن تسمية القلب من التقلب ، و من ضمن التقلب ، التقلب في الأسماء المختلفة . فهو تارة قلب و تارة نفس و أخرى عقل أو روح .
ب ـ الاعتبارات الحاكمة على العقل :
إن حقيقة الإنسان المستوية على التمام بين طرفي النقيض من وجود و عدم ، و نور و ظلمة ، تعطيه تسمية القلب لأنه في كمال قابليته للأمرين معا . و ميل القلب عن درجة الاعتدال تلك ، إلى أحد الجانبين دون الآخر ، يخرجه عن قلبيته و يجعله :
ـــ إن غلبت عليه الظلمة و أحكام العدم ، يصير نفسا بهذا الاعتبار .
ـــ و إن غلب عليه النور و أحكام الوجود ، يصير روحا بهذا الاعتبار .
و هو عقل على كل حال ، بمعنى إضافة الإدراك إليه بصرف النظر عن كونه مخطئا أو مصيبا في هذا الإدراك .
و قد نجد هذه التسميات التي ذكرناها موصوفة بصفات قد تخرجها عن الحد الأصلي لها ، حسب الاعتبارات المذكورة آنفا : كأن نسمع عن القلب المقفل ، فمعناه أنه مقفل عن النور ، فهو هنا إذن نفس ؛ أو كأن نسمع عن النفس المطمئنة ، فهي هنا روح .
إن علمت هذا ، فإنك ستجد لهذه الحقيقة القلبية مرتبتين تفصيليتين بين النفس و القلب ، و بين القلب و الروح ، و ذلك حسب نزول هذه الحقيقة في تينك المنزلتين ، تستلزمان (أي المرتبتان) تسميتين أخريين هما : الفؤاد و الصدر .
و إن عرفت ماذا نقصد بالتسميات ، فقل كما شئت و عبر بما تراه مناسبا .
الفـصـل الـثـاني : العـقـل المـجـرد
1 . صورة مبسطة :
لقد وجد الإنسان نفسه بعد أن لم يكن (الإنسان هنا بالمعنى العام الافتراضي و ليس آدم) ، و جد نفسه مدركا لنفسه ، وسط مخلوقات قد تشبهه من أوجه و تمتاز عنه من أوجه أخرى ، بين سماء و أرض ، يتعاقب عليه ليل و نهار ، تتراوحه أحوال متباينة ، ملائمة لأغراضه تارة ، و غير ملائمة أخرى ؛ و وجد من نفسه انجذابا إلى أشياء حسب هذه الأغراض ، و نفورا من أشياء أخرى ، كما وجد من نفسه قوة تسعفه على التصرف في نفسه أو في غيره من الموجودات ، تبعا لما يعطيه إدراكه . غير أن ذلك لم يكن له دائما على التمام : فقد لاحظ أن الأشياء قد تنصاع له حينا ، و تستعصي عليه آخر : و ذلك كتوفر مصادر الأكل له مثلا في زمان دون زمان أو في مكان دون مكان ، أو مناسبة نوع من المأكولات له في حال دون حال ؛ فاحتار الإنسان في نفسه : أهو سيد الوجود ، بحيث يكون ما سواه عبيدا مسخرين له يتصرف فيهم كما يشاء ؟ ...فلا يجب أن يستعصي عليه شيء ، و لا أن يخالف إرادته شيء ! أم هو مسخر مثل غيره ، لا يملك من أمره شيئا ؟ فلمن هو مسخر ، و لم هو مسخر ؟ ... و لماذا يجد من نفسه بعض قدرة و بعض تحكم في مقابل ذلك ؟
فصار الإنسان يتوق إلى الوصول إلى حل هذا اللغز الكبير ، و استعمل في ذلك كل قواه الحسية منها و العقلية ، فشرع يرتب معلوماته و يصنفها ، ثم يركبها تركيبا خاصا ينتج له معلومات جديدة ، و صار إدراكه يتطور شيئا فشيئا و يتوسع مع مرور الزمن ، فظن أنه يقترب من الحل ، حل اللغز الذي يحيره .
و إلى جانب تعطشه إلى العلم بحقيقة الأمر ، أو قل قبله ، كان الإنسان يتحرك حسيا و معنويا في هذا الوجود بدافع حافزين اثنين ، هما :
ـــ دفع الضرر .
ـــ و جلب المنفعة .
و كلاهما يندرج تحت معنى واحد هو : المحافظة على بقاء الفس .
فمن قبيل دفع الضرر : احتماؤه من الحر و القر ، و اتقاؤه من الحيوانات التي تكون خطرا على حياته ، إلى غير ذلك من المضار .
و من قبيل جلب المنفعة : توفير المأكل و المشرب للإبقاء على حياته و قوته ، و البحث عن سبل تنمية مداركه ، إلى غير ذلك من المنافع .
لكن من حقق النظر ، يجد أن جلب المنفعة يعود في الأصل إلى دفع الضرر ، فتوفير المأكل و المشرب مثلا ، إنما هو في الأصل لدفع ضرر الجوع و العطش في المرتبة الأولى ، ثم دفع ضرر الموت في المرتبة الثانية ، و هكذا في كل أمر على التفصيل . غير أن إدراك هذا الأمر على سبيل التحقيق ، ليس في مقدرة العقل في هذا الطور .
كما يلاحظ أن النتائج لم تكن دائما موافقة لإرادة الإنسان في هذا المجال : فهو من حيث يريد دفع الضرر ، قد يقع فيه ؛ و من حيث يريد جلب النفع ، قد يجر على نفسه ضررا لم يكن متوقعا لديه .
و مع مرور الزمن ، صارت هذه الصورة المبسطة لمظاهر حياة الإنسان ، تزداد تعقيدا و تشعبا حتى لتكاد تخفى أصولها عن جل العقول . و مع تطور الإنسان ، و توصله إلى تحقيق بعض أغراضه ، صارت الكماليات تتولد عن الضروريات ، ثم تصير الكماليات أشبه بالضروريات . فينطلق الإنسان سعيا وراء تحقيق أغراض و كماليات لا تكاد تنحصر ، إلى أن بلغ الحال إلى ما هو عليه اليوم .
لكن هل خرج الإنسان من حيرته ؟ و هل وجد الأجوبة الشافية عن أسئلته ؟ ذلك ما يشهد على نفيه أغلب ما توصل إليه الإنسان من خلال مسيرته العقلية ؛ باستثناء قلة ممن سنتعرف عليهم في الباب الثاني من هذا الكتاب ، إن شاء الله تعالى .
من خلال وظائف العقل الإنساني ، المتعلقة بمختلف مظاهر إسهاماته في تطور الحياة البشرية ، نستخلص خاصيات لهذا العقل ، منها :
ا ـ قدرته على خزن المعلومات .
ب ـ قدرته على تذكر المعلومات المخزونة عند الحاجة إليها .
ج ـ تجريد المدركات الحسية من صورها ، و العبور إلى معانيها : و ذلك كالعبور من صورة المصباح مثلا إلى معنى الإنارة ، و من صورة السلاح إلى معنى القتل .
د ـ خلع صورة محسوسة على المعاني المجردة (التصوير) : و ذلك كمنح معنى الإنارة صورة المصباح ، أو معنى القتل صورة السلاح ، وهي (أي هذه الخاصية) عكس سابقتها ، لذلك هما متكاملتان بالنظر إلى دورهما في العمليات العقلية .
ه ـ التخيل : و هو تركيب مدركات حسية لها أصل في الواقع على هيئة لا توجد عليها في الواقع ، و ذلك كما يفعل مؤلفو القصص الخيالية مثلا ، أو كأن تتخيل إنسانا له رأس ذئب و أذنا حمار و ذنب أسد مثلا .
هذه الخاصيات التي ذكرناها ستعمل على إثراء عملية عقلية رئيسة في هذا الطور ، هي عملية التفكر .
2 . الفكــر :
الفكر هو استعمال معلومات ثابتة الصحة عند العقل للتوصل إلى معلومات جديدة . و أولى المعلومات ثابتة الصحة لدى العقل ، و التي كانت منطلقا لعملية التفكر هي البديهيات التي هي شطر المسلمات ، و التي تقبل العقل صحتها من دون برهنة عليها ، بل هي لا تقبل البرهنة ، و ذلك كإدراك الإنسان لوجود نفسه . بخلاف من أراد الاستدلال على وجوده كما سيأتي . و كعدم اتصاف شيء بنقيضين في نفس الوقت ، الذي هو من المسلمات ، و ذلك كأن تقول : إن الرجل طويل قصير ، أو إن الثوب جديد بال ، هذا مبلغ الفكر .
ثم إن العقل يضم معلومتين تشتملان على عامل مشترك (الحد الأوسط) إلى بعضهما ، فينتج له ذلك علما جديدا لم يكن لديه ، و هذه المعلومة الجديدة يضمها إلى أخرى فتنتج له نتيجة أخرى ، و هكذا ... فالمعلومتان الأوليان اللتان تضمان إلى بعضهما هما المقدمتان ، و المعلومة الجديدة هي النتيجة .
يتضح من هذا ، أن عملية التفكر عملية تسلسلية توالدية ، تنبني على أصل ثابت لدى العقل غير متولد عنه ، إذ لو تولدت عنه لكانت البديهيات مبرهن عنها .
ضوابط الفكر :
إن الفكر الذي يعتمد في مساره طرق البرهنة المعروفة، لا بد أن يتقيد بضوابط و شروط كي يضمن عدم الزلل ، و من ذلك :
ـــ لا بد من علم الأصول و الفروع ، و الكليات و الجزئيات ، و علم النسب المختلفة بين أمرين أو أكثر : كالتقابل و التضاد والتناسب و التوافق و التطابق ، و غير ذلك ...
ـــ تمييز العلوم المهارية العملية من العلوم النظرية الصرف .
ـــ قابلية المراجعة و التدارك و التصحيح .
ـــ قابلية المقارنة مع فكر آخر .