عبد الغني النابلسي رحمه الله
الحمد لله ولي التوفيق، والشكر له على الهداية إلى حقيقة التحقيق...
والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه وتابعيه، وأنصاره وأحزابه السالكين على أقوم طريق.
أما بعد،
فيقول العبد الفقير إلى مولاه الخبير عبد الغني النابلسي الحنفي، علمه الله تعالى ما لم يعلم وأدامه سالكاً على السنن الأقوم:
قد اطلعت على رسالة في حكم التقليد في المذهب، صنفها مفتي البلد الحرام مكة المشرفة على جميع بلاد الإسلام، وهو الشيخ محمد عبد العظيم ابن المنلا فرَّوخ رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقد اشتملت على ستة مقاصد، لم تتحرر على وجه الصواب لكل قاصد.
فالمقصد الأول: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
والثاني: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
والثالث: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟
والرابع: ما حكم الاقتداء بالمخالف؟ وهل العبرة في ذلك لرأي المقتدي أو الإمام؟
والخامس: هل يجوز التقليد بعد الفعل أم لا؟
والسادس: في بيان حكم التلفيق.
فطلب مني بعض الأصحاب تحقيق هذه المقاصد المهمة على وجه الصواب، مخافة أن يغتر بما لم يُحرَّر أهلُ البداية من الطلاب، فشرعت في ذلك مستعيناً بالقدير المالك، وقد سميت ما شرعت فيه:
خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق.
والله حسبي ونعم الوكيل، وعلى الله قصد السبيل – أ هـ.
مطلب: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
المقصد الأول: فهل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
اعلم أولاً – علمك الله تعالى كل خير – أن مذاهب السلف الماضين من الصحابة [والتابعين] وتابعي التابعين – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – كثيرة لا تكاد تنحصر الآن عدداً، أو كلها اجتهادات استوفت الشروط، فاستفادت من الله تعالى معونة ومدداً ولا يجوز لأحد الطعن في شيء منها أبداً.
كما قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي رحمه الله في شرح الجامع الأسيوطي: "ويجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين – يعني سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة – والأوزاعي، وداود الظاهري، وإسحاق بن راهويه، وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه." انتهى.
وفي جمع الجوامع: وأن الشافعي، ومالك، وأبا حنيفة، والسفيانين، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق، وداود، وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم.
وقال الشارح المحلي: ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه. انتهى.
قلت: فإن من اشتمل على ما يعاب به في الدين ولم يطعن فيه أحد، فلا إثم على من لم يطعن، وأما إذا لم يشتمل على شيء من ذلك، ووقع الطعن من أحد، فالإثم على الطاعن. قال تعالى: ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (. وأما تقليد مذهب من مذاهبهم الآن غير المذاهب الأربعة، فلا يجوز لا لنقصان في مذاهبهم، ورجحان المذاهب الأربعة عليهم، لأن فيهم الخلفاء المفضلين على جميع الأمة، بل لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر، حتى لو وصل إلينا شيء من ذلك كذلك جاز لنا تقليده، لكنه لم يصل كذلك.
قال المناوي رحمه الله تعالى في كتابه المذكور: لا يجوز تقليد الصحابة، وكذا تقليد التابعين؛ كما قاله إمام الحرمين من كل من لم يدون مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت، حتى ظهر تقليد مطلقها، وتخصيص عامتها، بخلاف غيرهم لانقراض أتباعهم، وقد نقل الإمام الرازي إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. قال المناوي رحمه الله تعالى: نعم يجوز لغير عامي من الفقهاء تقليد غير الأربعة، في العمل لنفسه إن علم نسبته لمن يجوز تقليده، وجمع شروطه عنده، لكن بشرط أن لا يتتبع الرخص، بأن يأخذ من مذهب الأهون بحيث تنحل رتبة التكليف من عنقه، وإلا من يجز.
وقال في الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي رحمه الله تعالى إنه: صرح في التحرير لابن الهمام إن الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة لانضباط مذاهبهم، واشتهارها وكثرة اتباعها. انتهى.
إذا علمت هذا، فاعلم أن المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير.
انحصر الآن العمل بشريعة محمد r في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة فقط على العموم، فالأمر المتفق عليه المعلوم من الدين بالضرورة، لا يحتاج إلى التقليد فيه لأحد الأربعة، كفرضية الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ونحوها، وحرمة الزنا، واللواط، وشرب الخمر، والقتل، والسرقة، والغصب، وما أشبه ذلك.
والأمر المختلف فيه هو الذي يحتاج إلى التقليد فيه، فإذا قلد فيه الإنسان مذهباً معيناً من المذاهب الأربعة، فهل يلزم ذلك الإنسان الدوم عليه، أو يجوز له الانتقال عنه؟
قال الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الملك البغدادي الحنفي – رحمه الله تعالى – في رسالة له عملها في بيان حقيقة التقليد.
اعلم: أن التقليد هو قبول قول الغير من غير معرفة دليله، وأما معرفة دليله فليس إلا وظيفة المجتهد، والتقليد مناط العمل، فكما لا يجوز للمجتهد العمل في الوقائع إلا باجتهاده ورأيه، كذلك لا يجوز للمقلد العلم في كل واقعة من الأعمال والأحكام إلا بتقليده، واستفتائه من مفت مجتهد، أو حامل فقه، وقالوا الواجب على المقلد المطلق اتباع مجتهد في جميع المسائل، فلا يجوز له العمل في واقعة إلا بتقليد مجتهد، أي مجتهد كان وأما إذا كان مجتهداً في البعض فقد اختلف فيه، فقيل: يقلد فيما يعجز فيه عن الاجتهاد ويجتهد فيما لا يعجز بناءً على التجزي في الاجتهاد وهو الراجح عد الأكثر، والمقلد إذا اتبع أحد المجتهدين وأخذ بقوله، وعمل بموجبه، يجوز له أن يقلد غير ذلك المجتهد في حكم آخر يعمل به، كمن قلد أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – أولاً في مسألة، وثانياً الشافعي – رحمه الله تعالى – في أخرى، كذا صرح ابن الهمام في كتابه التحرير في علم الأصول؛ وبه قال الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: وذلك للقطع بأنهم في كل عصر كانوا يستفتون مرةً واحداً، ومرةً غيره، غير ملتزمين مفتياً معيناً. وهذا إلا لم يلتزم حكماً بخصوصه، ولم يعلم بهذا الحكم سابقاً، وأما إذا علم به بعد أن قلده فيه فلا يرجع فيه باتفاق العلماء، كذا قاله الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: حكم المقلد في المسألة الاجتهادية كالمجتهد، فإنه إذا كان له رأيين في مسألة وعمل بأحدهما يتعين له ما عمل به، وأمضاه بالعمل فلا يرجع عنه إلى غيره إلا بترجيح ذلك الغير، كمن اشتبهت عليه القبلة في جهتين، أو جهات، فاختار واحدة يتعين له هذه الجهة ما لم يرجح الآخر، وكذا القاضي فيما له رأيين فيه بعد أن حكم وأمضاه بالحكم في أحدهما، فالمقلد إذا عمل بحكم من مذهب لا يرجع عنه إلى آخر، من مذهب آخر. انتهى كلام ابن الهمام.
واعلم أن مذهب الجمهور، والذي اختاره ابن الهمام، أن أصل الالتزام ليس بواجب ابتداءً، بل يجوز لكل أحدٍ أن يستفتي في كل واقعة عند أيّ مفت اختاره، ويعمل بحكمه كما كان في القرون الفاضلة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
ونقل صاحب العقد الفريد عن الإمام النووي ما يعضد هذا المذهب حيث قال: والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم التمذهب بمذهب معين، بل يستفتي من شاء ومن اتفق، لكن من غير تلقط الرخص، فلعل من منعه شاء لم يثق بعدم تلقطه. انتهى كلام النووي. وقال ابن الهمام في كتابه "التحرير": فلو التزم المقلد مذهباً معيناً كأبي حنيفة والشافعي، فقيل: تلزمه. انتهى. يعني الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل من مذهب آخر، لأنه بالتزامه يصير ملزوماً به كما التزم مذهبه في حادثة معينة ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الصواب فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، كذا في شرح التحرير لابن أمير حاج.
وقيل: لا يلزمه وهو الأصح لما وجهه الرافعي وغيره، بأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا [ ما ] أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب لرجل من الأمة فيقلد دينه في كل ما يأتي ويذر غيره، ولا قائل به أحد من المجتهدين، أن من تبعني فلا يتبع أحداً غيري. إلا هنا كلام البغدادي في رسالته.
وفي شرح الجوامع للمحلي – رحمه الله تعالى والأصح أنه يجب على العامي وغيره ممن لم تبلغ رتبته الاجتهاد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين، ثم في خروجه عنه أقوال:
أحدها: لا يجوز لأنه التزمه وإن لم يجب التزامها.
ثانيها: يجوز، والتزام ما لا يلزم غير ملزم.
ثالثها: لا يجوز في بعض المسائل، ويجوز في بعض توسطاً بين القولين، والجواز في غير ما عمل به أخذاً مما تقدم، في عمل غير الملتزم، فإنه إذا لم يجز له الرجوع – قال ابن الحاجب كالآمدي اتفاقاً – فالملتزم أولى بذلك، وقد حكيا منه الجواز ويقيد بما قلناه يعني في غير ما عمل به، وقيل: لا يجب عليه التزام مذهب معين، فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارةً وبغيره أخرى وهكذا. انتهى.
وقال والدي – رحمه الله تعالى – في شرحه على شرح الدرر: روى البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما –، أنه قال: قال رسول الله r: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن في سنة مني فما قاله أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة ".
قال لجلال السيوطي في " جزيل المواهب ": في هذا الحديث فوائد؛ إخباره r باختلاف المذاهب بعده في الفروع، وذلك من معجزاته r ألنه من الإخبار بالمغيبات والتخيير للمكلف في الأخ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها، ويستنبط منه أن كل المجتهدين على هدى، من غير تعيين لأحدها، ولكنهم على حق فلا لوم على أحد منهم، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطيئه لقوله: " فأيما أخذتم به اهتديتم ".
وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب " الرواة " عن مالك ن طريق إسماعيل بن أبي المحامد، قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبدا لله ! تكتب هذه الكتب وتفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة؟! قال: يا أمير المؤمنين ! إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله.
ثم قال الجلال السيوطي: واعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملّة نعمة كبيرة، وفضيلة جزيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي r جاء بشرع واحد فمن أين مذاهب أربعة؟
ومن العجيب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبة وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحدٌ منهم أحداً، ولا عادى أحد منهم أحداً ولا نسب أحدٌ إلى أحد خطأً ولا قصوراً، والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث: "إن اختلاف هذه الأمة رحمة لها وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً". فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكان الأنبياء – صلوات الله عليهم – يُبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد، حتى أنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا، كتحريم عدم القصاص في شريعة اليهود، وتحتم الدية في شريعة النصارى، وهذه الشريعة وقع فيها التخيير بين أمرين: شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية، فكأنها جمعت بين الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث وهو التخيير، ومن ذلك مشروعية الاختلاف في الفروع، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدّة شرائع بعث النبي r بجميعها، انتهى كلامه مختصراً.
وإنما ذكرناه لإفادته ما نحن بصدده من عدم التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة، مع ذكر الفوائد الجليلة.
والحاصل: أن العلماء اختلفوا في لزوم مذهب معين، وصحح كل أحد منهم ما ذهب إليه، وعدم اللزم هو الراجح كما ذكرناه بعد أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة، والله ولي التوفيق.
مطلب: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
وأما المقصد الثاني: فهل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
اعلم: أنهم حيث أوجبوا التقليد للمجتهد على غير المجتهد فلا شك أن الموافقة من غير قصد لا تكفي، لكونها غير تقليد كما سبق في تعريف التقليد: بأنه قبول قول الغري من غير معرفة دليله.
وقال المحلي في شرح الجوامع: التقليد: أخذ القول بأن يعتقد من غير معرفة دليله، فهو اجتهاد وافق اجتهاد القائل. ثم قال: ويلزم غير المجتهد علمياً كان أو غيره أي يلزمه التقليد للمجتهد لقوله تعالى: ) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( انتهى. وقد سبق التصريح بمثل ذلك من لزوم التقليد للمجتهد، فلا تكفي الموافقة على كل حال، غير أن التقليد بعد الفعل جائز عندنا كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فيبقى على هذا لا بد من قصد القلب في العمل بقول الغير حتى يسمى تقليداً، لكن سواءً قصد ذلك قبل الفعل – وهو الأصل المجمع عليه – أو بعد الفعل فهو صحيح عندنا أيضاً، وأما إذا خلا عملاً قبله وبعده من قصد قلبه للأخذ بقول الغير من الأئمة الأربعة فلا يكون حين العمل مقلداً لأحد من المجتهدين وليس هو بمجتهد فعمله حينئذ باطل اتفاقاً.
مطلب: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلّده أم لا؟
وأما القصد الثالث: فهل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟
قال الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى في رسالته في التقليد: واختلفوا في أنه له يجوز للمقلد تقلدي المفضول مع وجود الأفضل؟ فجوّزه الأئمة الحنفية، والمالكية وأكثر الشافعية، ومنعه الإمام أحمد وطائفة من الفقهاء، كذا في التحرير لابن الهمام وشرحه لابن أمير حاج.
ونقل عن الإمام الغزالي أنه قال: إذا اعتقد المقلد أحد المجتهدين بالفضل، لا يجوز له أن يقلد غيره. وإن كان لا يلزم البحث عن الأعلم إذا لم يعلم اختصاص أحدهم بزيادة الفضل والعلم، وأما إذا علم واعتقد زيادة الفضل في أحدهم يلزم تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين. وإن تعارضا في العلم والورع قدم الأعلم على الأصح، انتهى. وقال الشيخ محمد البغدادي أيضاً رحمه الله تعالى: فإن قلت كيف يذكر ابن الهمام وشارح كلامه من علماء المذهب في المسألة الفقهية قول المخالفين من المالكية والشافعية؟ فيستدلان على ما اختاره من الوجه. قلت: إن المسألة إذا لم يكن لها اختصاص بواحد من الأئمة بل كانت مشتركة فيما بينهم في الحكم، كمسائل أصول الدين والأحكام المتفق عليها من الفروع، فيجوز الاستدلال عليها بقول الجميع، ومسألة التقليد والافتداء بالمخالف من هذا القبيل. فلا محذور في إيراد الدليل عليها من أي عالم ومجتهد كان، انتهى فاعلم. هذا فيما سنذكره.
وقال المحلي – رحمه الله تعالى – في شرح جمع الجوامع: تقليد المفضول من المجتهدين فيه أقوال: أحدها: – ورجحه ابن الحاجب – يجوز لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم – y – مشتهراً متكرراً نم غير إنكار.
ثانيها: لا يجوز، لأن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهدين، فكما يجب الأخذ بالراجح من الأدلة، يجب الأخذ بالراجح من الأقوال: والراجح منها قول الفاضل، ويعرفه العامي بالتسامع وغيره. ثالثها: المختار يجوز لمعتقده فاضلاً عنده أو مساوياً له، بخلاف من اعتقد مفضولاً ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح من المجتهدين، لعدم تعينه. فإن اعتقد العامي رجحان واحد منهم تعيّن، لأن تقليده وإن كان مرجوحاً في الواقع عملاً باعتقاده المبني عليه. والراجح علماً فوق الراجح ورعاً في الأصح، لأن لزيادة العلم تأثيراً في الاجتهاد بخلاف زيادة الورع، وقيل: العكس، لأن لزيادة الورع تأثيراً في التثبت في الاجتهاد وغيره، بخلاف زيادة العلم. ويحتمل التساوي لأن لكل مرجحاً. انتهى.
وقال الشيخ محمد البغدادي في رسالته: من أحوال المقلد أن يكون من العلماء فيعتقد بحسب حاله وعلمه رجحان مذهب الغير في تلك المسألة فين له الاتباع للراجح في ظنه. انتهى. وقال المناوي – رحمه الله تعالى – في شرح الجامع نقلاً عن السبكي: إن المنتقل من مذهب لآخر له أحوال، وذكر منها: أن يعتقد رجحان مذهب الغير فيجوز عمله بالراجح في ظنه، ومنها أن لا يعتقد رجحان شيء فيجوز. انتهى.
وهذا كله يقتضي أنه لا يلزم المقلد اعتقاد الأرجحية في مذهبه، وإن كان الأولى اعتقادها للخروج من الخلاف الواقع في ذلك كما ترى، وعلى الأولوية وعدم اللزوم ما وقع في الأشباه والنظائر في آخر الفن الثالث نقلاً عن المصفى: إذا سئلنا في مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع يجب أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب. لأنك لو قطعت القول لما صح قولنا: إن المجتهد يخطئ ويصيب. وإذا سئلنا عن معتقدنا ومعتقد خصومنا في العقائد يجب علينا أن نقول: الحق ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومنا. هكذا نقل عن المشايخ. انتهى.
ولا يحتاج أن يحمل ذلك على المجتهدين في المذهب أصحاب الترجيح، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي والسرخسي ونحوهم. كما حمل ذلك على أمثال هؤلاء الشيخ محمد بن الفروخ المكي في رسالته حيث قال: بأن هذا في حق أئمتنا ومن أخذ بقولهم من أهل النظر، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي وأمثالهم. إذا سئلوا يجيبوا بما ذكر. وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد فيه إلى آخر كلامه، وقد علمت فساد هذا الحمل بما ذكرنا من النقول في جواز تقليد المفضول مع العلم بالفاضل وإن ذلك لا يختص بمقلد دون مقلد، وإن الخلاف في ذلك في حق كل مقلد والله الموفق.
الحمد لله ولي التوفيق، والشكر له على الهداية إلى حقيقة التحقيق...
والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وأصحابه وتابعيه، وأنصاره وأحزابه السالكين على أقوم طريق.
أما بعد،
فيقول العبد الفقير إلى مولاه الخبير عبد الغني النابلسي الحنفي، علمه الله تعالى ما لم يعلم وأدامه سالكاً على السنن الأقوم:
قد اطلعت على رسالة في حكم التقليد في المذهب، صنفها مفتي البلد الحرام مكة المشرفة على جميع بلاد الإسلام، وهو الشيخ محمد عبد العظيم ابن المنلا فرَّوخ رحمه الله تعالى وعفا عنه. وقد اشتملت على ستة مقاصد، لم تتحرر على وجه الصواب لكل قاصد.
فالمقصد الأول: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
والثاني: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
والثالث: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟
والرابع: ما حكم الاقتداء بالمخالف؟ وهل العبرة في ذلك لرأي المقتدي أو الإمام؟
والخامس: هل يجوز التقليد بعد الفعل أم لا؟
والسادس: في بيان حكم التلفيق.
فطلب مني بعض الأصحاب تحقيق هذه المقاصد المهمة على وجه الصواب، مخافة أن يغتر بما لم يُحرَّر أهلُ البداية من الطلاب، فشرعت في ذلك مستعيناً بالقدير المالك، وقد سميت ما شرعت فيه:
خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق.
والله حسبي ونعم الوكيل، وعلى الله قصد السبيل – أ هـ.
مطلب: هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
المقصد الأول: فهل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا؟
اعلم أولاً – علمك الله تعالى كل خير – أن مذاهب السلف الماضين من الصحابة [والتابعين] وتابعي التابعين – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – كثيرة لا تكاد تنحصر الآن عدداً، أو كلها اجتهادات استوفت الشروط، فاستفادت من الله تعالى معونة ومدداً ولا يجوز لأحد الطعن في شيء منها أبداً.
كما قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي رحمه الله في شرح الجامع الأسيوطي: "ويجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين – يعني سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة – والأوزاعي، وداود الظاهري، وإسحاق بن راهويه، وسائر الأئمة على هدى، ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه." انتهى.
وفي جمع الجوامع: وأن الشافعي، ومالك، وأبا حنيفة، والسفيانين، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق، وداود، وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم.
وقال الشارح المحلي: ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه. انتهى.
قلت: فإن من اشتمل على ما يعاب به في الدين ولم يطعن فيه أحد، فلا إثم على من لم يطعن، وأما إذا لم يشتمل على شيء من ذلك، ووقع الطعن من أحد، فالإثم على الطاعن. قال تعالى: ) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (. وأما تقليد مذهب من مذاهبهم الآن غير المذاهب الأربعة، فلا يجوز لا لنقصان في مذاهبهم، ورجحان المذاهب الأربعة عليهم، لأن فيهم الخلفاء المفضلين على جميع الأمة، بل لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر، حتى لو وصل إلينا شيء من ذلك كذلك جاز لنا تقليده، لكنه لم يصل كذلك.
قال المناوي رحمه الله تعالى في كتابه المذكور: لا يجوز تقليد الصحابة، وكذا تقليد التابعين؛ كما قاله إمام الحرمين من كل من لم يدون مذهبه، فيمتنع تقليد غير الأربعة في القضاء والإفتاء، لأن المذاهب الأربعة انتشرت وتحررت، حتى ظهر تقليد مطلقها، وتخصيص عامتها، بخلاف غيرهم لانقراض أتباعهم، وقد نقل الإمام الرازي إجماع المحققين على منع العوام من تقليد أعيان الصحابة وأكابرهم. قال المناوي رحمه الله تعالى: نعم يجوز لغير عامي من الفقهاء تقليد غير الأربعة، في العمل لنفسه إن علم نسبته لمن يجوز تقليده، وجمع شروطه عنده، لكن بشرط أن لا يتتبع الرخص، بأن يأخذ من مذهب الأهون بحيث تنحل رتبة التكليف من عنقه، وإلا من يجز.
وقال في الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي رحمه الله تعالى إنه: صرح في التحرير لابن الهمام إن الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة لانضباط مذاهبهم، واشتهارها وكثرة اتباعها. انتهى.
إذا علمت هذا، فاعلم أن المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير.
انحصر الآن العمل بشريعة محمد r في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة فقط على العموم، فالأمر المتفق عليه المعلوم من الدين بالضرورة، لا يحتاج إلى التقليد فيه لأحد الأربعة، كفرضية الصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، ونحوها، وحرمة الزنا، واللواط، وشرب الخمر، والقتل، والسرقة، والغصب، وما أشبه ذلك.
والأمر المختلف فيه هو الذي يحتاج إلى التقليد فيه، فإذا قلد فيه الإنسان مذهباً معيناً من المذاهب الأربعة، فهل يلزم ذلك الإنسان الدوم عليه، أو يجوز له الانتقال عنه؟
قال الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الملك البغدادي الحنفي – رحمه الله تعالى – في رسالة له عملها في بيان حقيقة التقليد.
اعلم: أن التقليد هو قبول قول الغير من غير معرفة دليله، وأما معرفة دليله فليس إلا وظيفة المجتهد، والتقليد مناط العمل، فكما لا يجوز للمجتهد العمل في الوقائع إلا باجتهاده ورأيه، كذلك لا يجوز للمقلد العلم في كل واقعة من الأعمال والأحكام إلا بتقليده، واستفتائه من مفت مجتهد، أو حامل فقه، وقالوا الواجب على المقلد المطلق اتباع مجتهد في جميع المسائل، فلا يجوز له العمل في واقعة إلا بتقليد مجتهد، أي مجتهد كان وأما إذا كان مجتهداً في البعض فقد اختلف فيه، فقيل: يقلد فيما يعجز فيه عن الاجتهاد ويجتهد فيما لا يعجز بناءً على التجزي في الاجتهاد وهو الراجح عد الأكثر، والمقلد إذا اتبع أحد المجتهدين وأخذ بقوله، وعمل بموجبه، يجوز له أن يقلد غير ذلك المجتهد في حكم آخر يعمل به، كمن قلد أبا حنيفة – رحمه الله تعالى – أولاً في مسألة، وثانياً الشافعي – رحمه الله تعالى – في أخرى، كذا صرح ابن الهمام في كتابه التحرير في علم الأصول؛ وبه قال الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: وذلك للقطع بأنهم في كل عصر كانوا يستفتون مرةً واحداً، ومرةً غيره، غير ملتزمين مفتياً معيناً. وهذا إلا لم يلتزم حكماً بخصوصه، ولم يعلم بهذا الحكم سابقاً، وأما إذا علم به بعد أن قلده فيه فلا يرجع فيه باتفاق العلماء، كذا قاله الآمدي وابن الحاجب. قال ابن الهمام: حكم المقلد في المسألة الاجتهادية كالمجتهد، فإنه إذا كان له رأيين في مسألة وعمل بأحدهما يتعين له ما عمل به، وأمضاه بالعمل فلا يرجع عنه إلى غيره إلا بترجيح ذلك الغير، كمن اشتبهت عليه القبلة في جهتين، أو جهات، فاختار واحدة يتعين له هذه الجهة ما لم يرجح الآخر، وكذا القاضي فيما له رأيين فيه بعد أن حكم وأمضاه بالحكم في أحدهما، فالمقلد إذا عمل بحكم من مذهب لا يرجع عنه إلى آخر، من مذهب آخر. انتهى كلام ابن الهمام.
واعلم أن مذهب الجمهور، والذي اختاره ابن الهمام، أن أصل الالتزام ليس بواجب ابتداءً، بل يجوز لكل أحدٍ أن يستفتي في كل واقعة عند أيّ مفت اختاره، ويعمل بحكمه كما كان في القرون الفاضلة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين.
ونقل صاحب العقد الفريد عن الإمام النووي ما يعضد هذا المذهب حيث قال: والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم التمذهب بمذهب معين، بل يستفتي من شاء ومن اتفق، لكن من غير تلقط الرخص، فلعل من منعه شاء لم يثق بعدم تلقطه. انتهى كلام النووي. وقال ابن الهمام في كتابه "التحرير": فلو التزم المقلد مذهباً معيناً كأبي حنيفة والشافعي، فقيل: تلزمه. انتهى. يعني الاستمرار عليه فلا يعدل عنه في مسألة من المسائل من مذهب آخر، لأنه بالتزامه يصير ملزوماً به كما التزم مذهبه في حادثة معينة ولأنه اعتقد أن المذهب الذي انتسب إليه هو الصواب فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، كذا في شرح التحرير لابن أمير حاج.
وقيل: لا يلزمه وهو الأصح لما وجهه الرافعي وغيره، بأن التزامه غير ملزم إذ لا واجب إلا [ ما ] أوجبه الله ورسوله، ولم يوجب الله تعالى ورسوله على أحد من الناس أن يتمذهب لرجل من الأمة فيقلد دينه في كل ما يأتي ويذر غيره، ولا قائل به أحد من المجتهدين، أن من تبعني فلا يتبع أحداً غيري. إلا هنا كلام البغدادي في رسالته.
وفي شرح الجوامع للمحلي – رحمه الله تعالى والأصح أنه يجب على العامي وغيره ممن لم تبلغ رتبته الاجتهاد التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين، ثم في خروجه عنه أقوال:
أحدها: لا يجوز لأنه التزمه وإن لم يجب التزامها.
ثانيها: يجوز، والتزام ما لا يلزم غير ملزم.
ثالثها: لا يجوز في بعض المسائل، ويجوز في بعض توسطاً بين القولين، والجواز في غير ما عمل به أخذاً مما تقدم، في عمل غير الملتزم، فإنه إذا لم يجز له الرجوع – قال ابن الحاجب كالآمدي اتفاقاً – فالملتزم أولى بذلك، وقد حكيا منه الجواز ويقيد بما قلناه يعني في غير ما عمل به، وقيل: لا يجب عليه التزام مذهب معين، فله أن يأخذ فيما يقع له بهذا المذهب تارةً وبغيره أخرى وهكذا. انتهى.
وقال والدي – رحمه الله تعالى – في شرحه على شرح الدرر: روى البيهقي في المدخل بسنده عن ابن عباس – رضي الله عنهما –، أنه قال: قال رسول الله r: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن في سنة مني فما قاله أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة ".
قال لجلال السيوطي في " جزيل المواهب ": في هذا الحديث فوائد؛ إخباره r باختلاف المذاهب بعده في الفروع، وذلك من معجزاته r ألنه من الإخبار بالمغيبات والتخيير للمكلف في الأخ بأيها شاء من غير تعيين لأحدها، ويستنبط منه أن كل المجتهدين على هدى، من غير تعيين لأحدها، ولكنهم على حق فلا لوم على أحد منهم، ولا ينسب إلى أحد منهم تخطيئه لقوله: " فأيما أخذتم به اهتديتم ".
وأخرج الخطيب البغدادي في كتاب " الرواة " عن مالك ن طريق إسماعيل بن أبي المحامد، قال هارون الرشيد لمالك بن أنس: يا أبا عبدا لله ! تكتب هذه الكتب وتفرقها في آفاق الإسلام لتحمل عليها الأمة؟! قال: يا أمير المؤمنين ! إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كل يتبع ما صح عنده، وكل على هدى، وكل يريد الله.
ثم قال الجلال السيوطي: واعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملّة نعمة كبيرة، وفضيلة جزيلة عظيمة، وله سر لطيف أدركه العالمون، وعمي عنه الجاهلون، حتى سمعت بعض الجهال يقول: النبي r جاء بشرع واحد فمن أين مذاهب أربعة؟
ومن العجيب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء، وصارت عصبة وحمية الجاهلية، والعلماء منزهون عن ذلك وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم خير الأمة، فما خاصم أحدٌ منهم أحداً، ولا عادى أحد منهم أحداً ولا نسب أحدٌ إلى أحد خطأً ولا قصوراً، والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث: "إن اختلاف هذه الأمة رحمة لها وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً". فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة، فكان الأنبياء – صلوات الله عليهم – يُبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد، حتى أنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا، كتحريم عدم القصاص في شريعة اليهود، وتحتم الدية في شريعة النصارى، وهذه الشريعة وقع فيها التخيير بين أمرين: شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية، فكأنها جمعت بين الشرعين معاً، وزادت حسناً بشرع ثالث وهو التخيير، ومن ذلك مشروعية الاختلاف في الفروع، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة، فصارت هذه الشريعة كأنها عدّة شرائع بعث النبي r بجميعها، انتهى كلامه مختصراً.
وإنما ذكرناه لإفادته ما نحن بصدده من عدم التزام مذهب معين من المذاهب الأربعة، مع ذكر الفوائد الجليلة.
والحاصل: أن العلماء اختلفوا في لزوم مذهب معين، وصحح كل أحد منهم ما ذهب إليه، وعدم اللزم هو الراجح كما ذكرناه بعد أن لا يخرج عن المذاهب الأربعة، والله ولي التوفيق.
مطلب: هل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
وأما المقصد الثاني: فهل موافقة المذهب من غير علم به كافية أم لا؟
اعلم: أنهم حيث أوجبوا التقليد للمجتهد على غير المجتهد فلا شك أن الموافقة من غير قصد لا تكفي، لكونها غير تقليد كما سبق في تعريف التقليد: بأنه قبول قول الغري من غير معرفة دليله.
وقال المحلي في شرح الجوامع: التقليد: أخذ القول بأن يعتقد من غير معرفة دليله، فهو اجتهاد وافق اجتهاد القائل. ثم قال: ويلزم غير المجتهد علمياً كان أو غيره أي يلزمه التقليد للمجتهد لقوله تعالى: ) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( انتهى. وقد سبق التصريح بمثل ذلك من لزوم التقليد للمجتهد، فلا تكفي الموافقة على كل حال، غير أن التقليد بعد الفعل جائز عندنا كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فيبقى على هذا لا بد من قصد القلب في العمل بقول الغير حتى يسمى تقليداً، لكن سواءً قصد ذلك قبل الفعل – وهو الأصل المجمع عليه – أو بعد الفعل فهو صحيح عندنا أيضاً، وأما إذا خلا عملاً قبله وبعده من قصد قلبه للأخذ بقول الغير من الأئمة الأربعة فلا يكون حين العمل مقلداً لأحد من المجتهدين وليس هو بمجتهد فعمله حينئذ باطل اتفاقاً.
مطلب: هل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلّده أم لا؟
وأما القصد الثالث: فهل يجوز التقليد من غير اعتقاد الأرجحية فيما قلده أم لا؟
قال الشيخ محمد البغدادي رحمه الله تعالى في رسالته في التقليد: واختلفوا في أنه له يجوز للمقلد تقلدي المفضول مع وجود الأفضل؟ فجوّزه الأئمة الحنفية، والمالكية وأكثر الشافعية، ومنعه الإمام أحمد وطائفة من الفقهاء، كذا في التحرير لابن الهمام وشرحه لابن أمير حاج.
ونقل عن الإمام الغزالي أنه قال: إذا اعتقد المقلد أحد المجتهدين بالفضل، لا يجوز له أن يقلد غيره. وإن كان لا يلزم البحث عن الأعلم إذا لم يعلم اختصاص أحدهم بزيادة الفضل والعلم، وأما إذا علم واعتقد زيادة الفضل في أحدهم يلزم تقليد أورع العالمين، وأعلم الورعين. وإن تعارضا في العلم والورع قدم الأعلم على الأصح، انتهى. وقال الشيخ محمد البغدادي أيضاً رحمه الله تعالى: فإن قلت كيف يذكر ابن الهمام وشارح كلامه من علماء المذهب في المسألة الفقهية قول المخالفين من المالكية والشافعية؟ فيستدلان على ما اختاره من الوجه. قلت: إن المسألة إذا لم يكن لها اختصاص بواحد من الأئمة بل كانت مشتركة فيما بينهم في الحكم، كمسائل أصول الدين والأحكام المتفق عليها من الفروع، فيجوز الاستدلال عليها بقول الجميع، ومسألة التقليد والافتداء بالمخالف من هذا القبيل. فلا محذور في إيراد الدليل عليها من أي عالم ومجتهد كان، انتهى فاعلم. هذا فيما سنذكره.
وقال المحلي – رحمه الله تعالى – في شرح جمع الجوامع: تقليد المفضول من المجتهدين فيه أقوال: أحدها: – ورجحه ابن الحاجب – يجوز لوقوعه في زمن الصحابة وغيرهم – y – مشتهراً متكرراً نم غير إنكار.
ثانيها: لا يجوز، لأن أقوال المجتهدين في حق المقلد كالأدلة في حق المجتهدين، فكما يجب الأخذ بالراجح من الأدلة، يجب الأخذ بالراجح من الأقوال: والراجح منها قول الفاضل، ويعرفه العامي بالتسامع وغيره. ثالثها: المختار يجوز لمعتقده فاضلاً عنده أو مساوياً له، بخلاف من اعتقد مفضولاً ومن ثم لم يجب البحث عن الأرجح من المجتهدين، لعدم تعينه. فإن اعتقد العامي رجحان واحد منهم تعيّن، لأن تقليده وإن كان مرجوحاً في الواقع عملاً باعتقاده المبني عليه. والراجح علماً فوق الراجح ورعاً في الأصح، لأن لزيادة العلم تأثيراً في الاجتهاد بخلاف زيادة الورع، وقيل: العكس، لأن لزيادة الورع تأثيراً في التثبت في الاجتهاد وغيره، بخلاف زيادة العلم. ويحتمل التساوي لأن لكل مرجحاً. انتهى.
وقال الشيخ محمد البغدادي في رسالته: من أحوال المقلد أن يكون من العلماء فيعتقد بحسب حاله وعلمه رجحان مذهب الغير في تلك المسألة فين له الاتباع للراجح في ظنه. انتهى. وقال المناوي – رحمه الله تعالى – في شرح الجامع نقلاً عن السبكي: إن المنتقل من مذهب لآخر له أحوال، وذكر منها: أن يعتقد رجحان مذهب الغير فيجوز عمله بالراجح في ظنه، ومنها أن لا يعتقد رجحان شيء فيجوز. انتهى.
وهذا كله يقتضي أنه لا يلزم المقلد اعتقاد الأرجحية في مذهبه، وإن كان الأولى اعتقادها للخروج من الخلاف الواقع في ذلك كما ترى، وعلى الأولوية وعدم اللزوم ما وقع في الأشباه والنظائر في آخر الفن الثالث نقلاً عن المصفى: إذا سئلنا في مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع يجب أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب. لأنك لو قطعت القول لما صح قولنا: إن المجتهد يخطئ ويصيب. وإذا سئلنا عن معتقدنا ومعتقد خصومنا في العقائد يجب علينا أن نقول: الحق ما نحن عليه، والباطل ما عليه خصومنا. هكذا نقل عن المشايخ. انتهى.
ولا يحتاج أن يحمل ذلك على المجتهدين في المذهب أصحاب الترجيح، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي والسرخسي ونحوهم. كما حمل ذلك على أمثال هؤلاء الشيخ محمد بن الفروخ المكي في رسالته حيث قال: بأن هذا في حق أئمتنا ومن أخذ بقولهم من أهل النظر، كأبي الحسن الكرخي والطحاوي وأمثالهم. إذا سئلوا يجيبوا بما ذكر. وليس المراد أن يكلف كل مقلد أن يعتقد ذلك فيما قلد فيه إلى آخر كلامه، وقد علمت فساد هذا الحمل بما ذكرنا من النقول في جواز تقليد المفضول مع العلم بالفاضل وإن ذلك لا يختص بمقلد دون مقلد، وإن الخلاف في ذلك في حق كل مقلد والله الموفق.