شباب الختمية

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
شباب الختمية

منتدى شباب الختم يتناول قضايا الشباب وفعالياتهم


    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد أبريل 29, 2012 10:26 am

    مدخل إلى فكر محيي الدين بن عربي
    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    ٢١ أيار (مايو) ٢٠٠٦بقلم نهاد خياطة

    إذا قال الصوفي: "لا أرى شيئًا غير الله"، فهو في حال وحدة شهود. وإذا قال: "لا أرى شيئًا إلا وأرى الله فيه"، فهو في حال وحدة وجود. ولعل هذا أوجز تبسيط ممكن لهذين الاصطلاحين اللذين يختزلان التجربة الصوفية في أبعادها كلِّها. فحال وحدة الشهود هي حال الفناء؛ وحال وحدة الوجود هي حال البقاء. والفناء والبقاء متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ وكذلك وحدة الشهود ووحدة الوجود: فإذا كنتَ فانيًا عن شيء، فأنت لا بدَّ باقٍ بغيره؛ أو إذا كنتَ باقيًا في شيء فأنت، لا محالة، فانٍ عن سواه. وهذا أمر طبيعي، بما أن الإنسان عاجز عن جمع همَّته، أو تسليط انتباهه، على أكثر من موضوع واحد في نفس اللحظة. هذه الورقة التي أكتب عليها، إن فكرت فيها (طولها، عرضها، لونها، إلخ)، تعذَّر عليَّ أن أكتب عليها؛ وإن فكرت في الكتابة أو فيما أكتب، تعذَّر عليَّ التفكير في الورقة. في الحالة الأولى، يقال في المصطلح الصوفي: أنا باقٍ بالورقة، فانٍ عن الكتابة؛ وفي الحالة الثانية، يقال: أنا فانٍ عن الورقة، باقٍ بالكتابة.

    يقول ابن عجيبة: [1]

    إن الفناء هو أن تبدو لك العظمة، فتنسيك كلَّ شيء، وتغيِّبك عن كلِّ شيء، سوى الواحد الذي "ليس كمثله شيء"، وليس معه شيء. أو تقول: هو شهود حقٍّ بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق... فمن عرف الحقَّ شهده في كلِّ شيء، ولم يرَ معه شيئًا، لنفوذ بصيرته من شهود عالم الأشباح إلى شهود عالم الأرواح، ومن شهود عالم المُلك إلى شهود فضاء الملكوت. ومن فَنِيَ به وانجذب إلى حضرته غاب في شهود نوره عن كلِّ شيء ولم يُثبِتْ مع الله شيئًا.

    ما يهمنا، فيما نحن في صدده من قول ابن عجيبة، قولُه: "[الفناء] هو شهود حقٍّ بلا خلق، كما أن البقاء هو شهود خلق بحق...". بعبارة أخرى، إن الفناء، أو وحدة الشهود، امتصاص التجلِّيات في مبدئها – المبدأ يمتص تجلِّياته و"يشفطها" – أو هو اختزال الدائرة في نقطة المركز؛ بينما البقاء هو شيوع المبدأ في تجلِّياته، أو هو اندياح نقطة المركز في الدائرة. في الحالة الأولى، يغيب الخلق في الحق؛ وفي الثانية، يتجلَّى الحقُّ في الخلق. والخلق والحقُّ أبدًا ما بين غياب وتجلٍّ.

    والمثال الذي كثيرًا ما يسوقه الصوفية تبيانًا لحالي الفناء والبقاء جواب قيس ليلى عندما سئل "أين ليلى"، وقوله: "أنا ليلى!" فقيس، لما قال ما قال، كان فانيًا عن نفسه باقيًا بليلى.

    لكن خير مثال يوضح لنا حالي الفناء والبقاء، كونه منتزَعًا من حياتنا المعاصرة، مثال الممثل السينمائي أو المسرحي الذي يؤدي دورًا رَسَمَه له المخرج: الممثل في هذه الحالة يتكلَّم كلامًا غير كلامه هو، ويأتي أفعالاً ليست أفعاله هو، بل كلامه وأفعاله كلام وأفعال الشخصية التي يؤدي دورها. بالتعبير الصوفي نقول: إن الممثل فانٍ عن نفسه باق بدورهٍ.

    ووحدة الشهود نوع من التوحيد يختلف عن توحيد الإيمان الذي نصَّتْ عليه الشريعة، من حيث إن التوحيد الشهودي توحيد يقيني، تجريبي أو "ذوقي"، على حدِّ المصطلح الصوفي؛ بينما التوحيد الشرعي إيماني، نقلي، يُلتمَس إليه الدليل بالنظر العقلي. وعلى هذا، فإن التوحيد الشهودي، أو وحدة الشهود، حال أو تجربة، لا فكر واعتقاد. يقول المرحوم د. أبو العلا عفيفي: [2]

    هو التوحيد الناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلَّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجِلُّ عن الوصف وتستعصي على العبارة؛ وهي الحال التي يستغرق فيها الصوفي ويفنى عن نفسه وعن كلِّ ميل سوى الحق، فلا يشاهد غيره لاستغراقه فيه بالكلِّية.

    ثم يتابع قائلاً:

    هذا هو الفناء الصوفي بعينه؛ وهو أيضًا مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري، إذ يقول: "إنه بمقدار ما يعرف العبد من ربِّه يكون إنكاره لنفسه؛ وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات."

    ثم يتابع عفيفي: [3]

    فإن العبد، إذا انكشف له شمول القدرة والإرادة الإلهية والفعل الإلهي، اضمحلت الرسوم والآثار الكونية في شهوده، وتوارتْ إرادتُه وقدرتُه وفعلُه في إرادة الحقِّ وقدرته وفعله، ووصل إلى الفناء الذي هو عين البقاء: لأنه يفنى عن نفسه وعن الخلق ويبقى بالله وحده.

    وينقل عفيفي عن التهانوي قوله: [4]

    والتوحيد عند الصوفية معرفةُ وحدانيَّته الثابتة له في الأزل والأبد، وذلك بألا يحضر في شهوده غير الواحد جلَّ جلاله... فيرى صاحب هذا التوحيد كلَّ الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعة ذاته [أي ذات الحق – التفسير من تدخُّل عفيفي] وصفاته وأفعاله، ويجد نفسَه في جميع المخلوقات كأنها مدبِّرة لها، وهي أعضاؤها.

    ثم يقول التهانوي: [5]

    ويرشد فهم هذا المعنى إلى تنزيه عقيدة التوحيد عن الحلول والتشبيه والتعطيل، كما طعن فيهم [أي الصوفية] طائفة من الجامدين العاطلين عن المعرفة والذوق، لأنهم إذا لم يُثبِتوا معه غيرَه فكيف يعتقدون حلوله فيه أو تشبيهه به – تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.

    أقول: نحن هنا أمام نَوْسَة هائلة من نَوْسات النفس البشرية في سعيها إلى نفي العالم من أجل إثبات الألوهة، بعد أن كانت، في "وثنيَّتها"، تنفي الألوهة من أجل إثبات العالم، أو على أعلى اعتبار، تجعل الألوهة شيئًا من أشياء العالم؛ "تشيِّئُها" وتصنعها من التمر، حتى إذا جاع عبادها أكلوها وأخذت طريقها إلى حيث النفايات. إذن، لا بدَّ من مواجهة نَوْسَة نفي الألوهة من أجل إثبات العالم بِنَوْسَة مضادة، وصلت إلى أقصى مدى لها عند صوفية وحدة الشهود الذين قالوا بنفي العالم من أجل إثبات الألوهة.

    نعود إلى عبارة التهانوي القائلة إن الصوفية لا يُثبِتون مع الله غيره، ولا مع صفاته صفات أخرى، ولا مع أفعاله أفعالاً أخرى. يعقِّب عفيفي على قول التهانوي بالقول إنه إذا أُخِذَ على إطلاقه، لا يجعل الصوفية من القائلين بالتوحيد، بل بوحدة الوجود؛ وهو معنى للتوحيد كادت أن تقول به المدرسة البغدادية في القرن الثالث الهجري، ومن زعمائها أبو القاسم الجنيد. [6]

    نستعرض فيما يلي طرفًا من أقوال كبار ممثِّلي هذه المدرسة، بادئين بأبي القاسم الجنيد. ولشيخ الصوفية أقوال كثيرة في التوحيد أهمها قوله: [7]

    أن يرجع العبد إلى أوَّله فيكون كما كان قبل أن يكون.

    يشير الجنيد بهذا إلى قوله تعالى:

    وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريَّتهم وأشهدتهم على أنفسهم: ألست بربِّكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنَّا كنَّا عن هذا غافلين. (الأعراف 172)

    أي أن شهادة الخلق للحقِّ بوحدانيته وربوبيَّته قد أخذها الله تعالى من بني آدم في الميثاق الأول، وهم بعدُ في عالم الغيب قبل أن يوجدوا في عالم الشهادة، عندما كانوا مجرد إمكانية وجود، أو وجود بالقوة، وقبل أن ينتقلوا إلى وجود بالفعل في هذا العالم. فإذا فَنِيَ الصوفي عن نفسه وعن الخلق كان في حال مماثلة لحاله في عالم الذرِّ؛ أو إن شئت قلت: في نفس الحال إياها، لأن كلَّ خروج من عالم الزمان والمكان هو التقاء بلحظة الميثاق التي قيلت فيها كلمة "بلى"!

    وقد غلا الشبلي في توحيده غلوًّا أدى به إلى تكفير الموحِّد بقوله: [8]

    من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد، ومن أشار إليه فهو ثنوي، ومن سكت عنه فهو جاهل، ومن وهم أنه واصل فليس له حاصل، ومن أومأ إليه فهو عابد وثن، ومن نطق فيه فهو غافل، ومن ظنَّ أنه قريب فهو بعيد، ومن تواجد فهو فاقد؛ وكلُّ ما ميَّزتموه بأوهامكم وأدركتموه بعقولكم من إثم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، مُحدَث مصنوع مثلكم.

    مفتاح توحيد الشبلي هو العبارة الأخيرة التي تفيد استحالة توحيد الخلق الحادث للحقِّ القديم، لأن توحيد "الحادث" حادث مثله؛ فهو بهذا الاعتبار عدم، أو بحكم العدم؛ وإثباتُ وجودٍ آخر مع الله الذي له وحدة الوجود إنما هو شرك أو إلحاد به – وهذا ما أدى ببعضهم إلى القول: ما وحَّد الله غير الله! [9]

    وكان الحلاج يقول:

    إن العبد إذا وحَّد الله تعالى فقد أثبت نفسه؛ ومن أثبت نفسه فقد أتى بالشرك الخفي. وإنما الله تعالى هو الذي وحَّد نفسه على لسان من شاء من خلقه.

    وقد أوفى الهروي على الغاية عندما قال:

    ما وحَّد الواحد من واحـد * إذ كلُّ من وحَّده جـاحد

    توحيد من ينطق عن نعته * عارية أبْطَلَـها الـواحد

    توحيـده إيِّــاه تـوحيده * ونعت من ينـعته لاحـد

    يلاحظ عفيفي أن بعض الدارسين من المستشرقين خَلُصَ من هذه الأقوال، بل من هذه المواقف، إلى أن السمة الغالبة على التصوف الإسلامي هي سمة "وحدة الوجود". لكن ما هي وحدة الوجود؟ ليس من اليسير إيجاد تعريف دقيق لهذه النظرية أو العقيدة، لأنها كثيرًا ما تلتبس بالحلول الذي يتنافى مع العقيدة الإسلامية، وربما غير الإسلامية. لكن ما يعنينا منها هنا هو وحدة الوجود التي يقول بها الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي.

    فالحلول Pantheism معناه امتصاص المبدأ في تجلِّياته، بحيث يصير الخالقُ أسيرَ مخلوقاته؛ فهي هو من كلِّ وجه، وهو هي من كلِّ وجه. على حين أن وحدة الوجود Unity of Being (أو بالفرنسية Unicité de l’Être)، أو على الأقل وحدة الوجود التي يقول بها ابن عربي، تختلف اختلافًا بيِّنًا عن عقيدة الحلول، وإن كانت تتقاطع معها في بعض النقاط لكي تتفارق عنها في بعض النقاط الأخرى، أو حتى في نفس النقاط.

    ولكي نوضح ذلك، نذكِّر بما قلناه في مطلع كلامنا من أن ثمة تلازمًا بين الفناء والبقاء، بحيث لا فناء بلا بقاء، ولا بقاء بلا فناء؛ بل إن الفناء هو عين البقاء، وإنهما حقيقة واحدة، ولا فرق بينهما إلا في الاعتبار؛ أو قل إنهما مظهران من حقيقة واحدة: أحدهما سلبي (الفناء)، وثانيهما إيجابي (البقاء). كما تبيَّن معنا أن وحدة الشهود تسمية أخرى للفناء، ووحدة الوجود تسمية أخرى للبقاء. وكلتا التسميتين – وشأنهما في هذا كشأن الفناء والبقاء – تعبِّر عن حقيقة واحدة، ولا فرق بينهما إلا في الاعتبار؛ حتى ليمكننا القول إن وحدة الشهود هي عين وحدة الوجود، قياسًا على القول إن الفناء هو عين البقاء.

    ولو عدنا إلى مثال الممثل السينمائي أو المسرحي الذي يؤدي دور شخصية معينة، لأمكننا التمييز بين ثلاثة أحوال: أولها، فناء الممثل عن نفسه؛ ثانيهما، بقاؤه في الشخصية التي يلعب دورها؛ وثالثها، بقاء الشخصية التي يلعب دورها في الممثل: فهي التي تنطق بلسانه فيما هو ينطق بلسانها، وهي التي تفعل من خلاله فيما هو يفعل من خلالها. وعلى هذا فقد يعني بقاء الصوفي في الحقِّ بقاءَ الحقِّ في الخلق أيضًا. ومن هنا قال الحلاج: "ما في الجبة غير الله!"

    ويمكننا أن نلاحظ هذه الأطوار الثلاثة في وصف عفيفي للتجربة الصوفية إذ يقول: [10]

    ولكن العبد الفاني عن نفسه، الباقي بربه، ليس في حالة سلبية محضة، كما قد يسبق إلى الأوهام، لأن بقاءه بالله يُشعِره بنوع من "الفاعلية" لا عهد له به، إذ يرى نفسه وكأنه منفِّذ للإرادة الإلهية، مدبِّر كلِّ ما يجري في الوجود، محرِّك للأفلاك، قطب الوجود الذي يدور عليه كلُّ شيء.

    لكن أين تتقاطع وحدة الوجود والحلول وأين تتفارقان؟

    النظريتان تتقاطعان عند اعتبارهما أن الله والعالم كينونة واحدة؛ وتتفارقان من حيث إن عقيدة الحلول تنفي ثنائية الحقِّ والخلق، على حين أن وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر تعترف بثنائية الحقِّ والخلق وتنفيها في نفس الوقت. فهي تحافظ على الثنائية فيما تقول بالوحدة، وتحافظ على الوحدة فيما تقول بالثنائية. أي أنها ثنائية في وحدة، أو وحدة في ثنائية؛ لكنها تمنح الوحدة قيمة مطلقة والثنائية قيمة نسبية. والسبب في ذلك قِدَمُ الحقِّ وحَدَثُ الخلق. فالخلق، أو العالم، مُحدَث غير قديم، ووجوده بهذه الصفة، ليس إلا وجودًا عابرًا بما هو صائر إلى زوال؛ بينما الحقُّ تعالى موجود أزلاً، وموجود أبدًا، لا بل هو الوجود بامتياز. وبذلك يكون وجود الخلق، قياسًا على وجود الحق، وجودًا كالعدم، أو هو اللاوجود. فكلُّ ما له بداية ونهاية فهو محدَث، لا حظَّ له في قِدَم. وهو، بهذه الصفة، لا وجود له إلا ما بين بدايته ونهايته؛ أما قبل البداية وبعد النهاية فعدم محض على صعيد الخلق بما هو خلق. إذن، فثنائية الحقِّ والخلق معترَف بها بمقدار "وجود" الخلق ما بين نشأته ومآله؛ وإلا فالوجود للحقِّ تعالى وحده، لأنه هو الوجود بامتياز، كما قلنا. وعلى هذا تكون ثنائية الحقِّ والخلق ذات قيمة نسبية، ويكون وجود الحقِّ وحده ذا قيمة مطلقة. أو تقول إن ثنائية الحقِّ والخلق شأن عابر، بينما وجود الحقِّ وحده هو الثابت والدائم. أو تقول إن وجود الحقِّ وجود حقيقي، ووجود الخلق وجود اعتباري. فوجود الخلق، بهذا الاعتبار، أمر معترَف به لدى الشيخ الأكبر.

    ثمة معيار آخر للتمييز بين الحلول ووحدة الوجود، أعني به التنزيه والتشبيه، أو المباينة والمحايثة، على حدِّ تعبير الإمام ابن قيِّم الجوزية، [11] أو التقييد والإطلاق، على حدِّ قول الشيخ الأكبر. [12]

    تلتقي عقيدة الحلول مع عقيدة وحدة الوجود في أن الاثنتين تقولان بالمحايثة – محايثة الألوهة للعالم؛ وتفترقان من حيث إن الحلول يقول بالمحايثة المطلقة، على حين أن وحدة الوجود تقول بالمحايثة النسبية. فالحقُّ ليس مباينًا للخلق مباينة مطلقة، لأنه لو كان كذلك لكان الخلق موجودًا بذاته، ولم يكن حادثًا، وكان حدًّا للألوهة. ويؤدي بنا إلى نتيجة مشابهة القول بأن الحقَّ محايث للخلق محايثة مطلقة بلا مباينة، فيكون الله تعالى، في هذه الحالة، محدودًا بحدود العالم، متناهيًا كتناهي العالم، نسبيًّا كنسبيَّته. إذن لا بدَّ من الاعتراف بكلتا صفتي التنزيه والتشبيه، أو المباينة والمحايثة، أو المفارقة Transcendence والكمون Immanence. وقد جمع ابن عربي بين التنزيه والتشبيه في قوله: [13]

    ... وبالجملة فالقلوب به هائمة والعقول فيه حائرة، يريد العارفون أن يفصِّلوه تعالى بالكلِّية عن العالم من شدة التنزيه فلا يقدرون، ويريدون أن يجعلوه عين العالم من شدة القرب فلا يتحقق لهم؛ فهم على الدوام متحيِّرون: فتارة يقولون "هو"، وتارة يقولون "ما هو"، وتارة يقولون "هو ما هو" – وبذلك ظهرت عظمته تعالى.

    ويقول أيضًا: [14]

    التنزيه عند أهل الحقائق في الجناب الإلهي عين التحديد والتقييد. فالمنزِّه إما جاهل أو صاحب سوء أدب... وكذلك من شبَّهه وما نزَّهه فقد قيَّده وحدَّده وما عرفه. ومن جمع معرفته بين التنزيه والتشبيه بالوضعين على الإجمال – لأنه يستحيل ذلك على التفصيل لعدم الإحاطة بما في العالم من الصور – فقد عرفه مجملاً لا على التفصيل، كما عرف نفسه مجملاً لا على التفصيل.

    ثمة معيار ثالث هو الإقرار بأن الله تعالى واجب الوجود بذاته، وأن العالم واجب الوجود بغيره. يترتَّب على هذا القول أن الله تعالى مطلق – لا بل هو المطلق – وأن العالم نسبي، وأن النسبي تابع للمطلق وخاضع له. وعند ابن عربي أن الخلق يشترك مع الحقِّ في كلِّ صفة واسم، إلا الوجوب بالذات. يقول الشيخ الأكبر: [15]

    ولا شكَّ أن المُحدَث قد ثبت حدوثُه وافتقارُه إلى مُحدِث أحْدَثَه لإمكانه لنفسه. فوجوده من غيره؛ فهو مرتبط به ارتباط افتقار. ولا بدَّ أن يكون المستنَد إليه واجب الوجود بذاته، غنيًّا في وجوده بنفسه غير مفتقر؛ وهو الذي أعطى الوجود بذاته لهذا الحادث فانتسب إليه. ولما اقتضاه لذاته كان واجبًا به. ولما كان استناده إلى مَن ظهر عنه لذاته، اقتضى أن يكون على صورته فيما يُنسَب إليه من كلِّ شيء من اسم وصفة، ما عدا الوجوب الذاتي؛ فإن ذلك لا يصح في الحادث، وإن كان واجب الوجود، ولكن وجوبه بغيره لا بذاته.

    ثمة معيار رابع هو طبيعة الارتباط بين الحقِّ والخلق. وهي رابطة معنوية لا جسمانية أو مادية. وفي هذا يقول الشيخ الأكبر: [16]

    أما الارتباط الجسماني فلا يصح بين العبد والرب [أو بين الخلق والحق] لأنه تعالى "ليس كمثله شيء"، فلا يصح به ارتباط من هذا الوجه أبدًا لأن "الذات" له الغنى عن العالمين؛ بخلاف الارتباط المعنوي، فإنه من جهة مرتبة الألوهية. وهذا واقع بلا شك لتوجُّه الألوهية على إيجاد جميع العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها.

    لكن الشيخ الأكبر لا يتوقف عند قوله "لتوجُّه الألوهية على إيجاد جميع العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها"، بل يصف هذا التوجُّه من قِبَل مرتبة الألوهية بالافتقار؛ والأمر قد يبدو اختراقًا لمعيار "الوجوب الذاتي". لكنه يبيِّن طبيعة هذا الافتقار، فيقول: [17]

    وهي [أي الألوهية] التي استدعت الآثار: فإن قاهرًا بلا مقهور، وقادرًا بلا مقدور، وخالقًا بلا مخلوق، وراحمًا بلا مرحوم، صلاحيةً ووجودًا وفعلاً، محال. ولو زال سرُّ هذا الارتباط لبطلت أحكام الألوهية لعدم وجود مَن يتأثر. فالعالم يطلب الألوهية وهي تطلبه. والذات المقدس غني عن هذا كلِّه.

    أقول: إن هذا نوع من الضرورة الميتافيزيقية اقتضتْها طبيعةُ كون الخالق خالقًا؛ أو هو نوع من تحقيق الذات بدونه تظل الألوهية إمكانية وجود، وليست وجودًا فاعلاً ومؤثرًا. وهو أدْخَلُ في باب الغاية من الخلق، في مثل قوله تعالى: "وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون" (الذاريات 56)، وفي تفسير ابن عباس "إلا ليعرفون"؛ أو قوله تعالى في الحديث القدسي: "كنت كنزًا مخفيًا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبه – أو فبي – عرفوني" [18]. أو هو من قبيل "حاجة" المحسِن الكريم إلى الإحسان وإلى من يتقبَّل منه إحسانه؛ إذ بدون المتقبِّل لا يمكن أن يُسمَّى المحسِن محسنًا.

    بقي أن نعرف أن الشيخ الأكبر يميِّز بين الذات الإلهية وبين مرتبة الألوهية: فالأولى مجردة عن الصفات والأسماء، وهي الغنية عن العالمين؛ أما الثانية، وهي الذات متصفة بالصفات والأسماء، فتحتاج إلى خلق الأشياء لكي ترى ذاتها فيها. أي أن فعل الخلق حاصل من مرتبة الألوهية التي تتوجَّه على إيجاد العالم بأحكامها ونسبتها وإضافتها. فصفة العلم مثلاً تتطلَّب، لكي تتحقق، معلومًا يتعيَّن فيه العلم، وعالمًا تقوم به هذه الصفة؛ أي تتطلَّب ذاتًا عالمة وموضوعًا معلومًا. فمن أسمائه تعالى "العالِم" (عالِم الغيب والشهادة)، ومن صفاته "العلم"؛ فذاته التي تتصف بالعلم، وهي مرتبة الألوهية من ذاته تعالى، تنعكس على مرآة صورة المعلوم، فترى الذات نفسها في صورة المعلوم، من حيث إن الخلق ما هو إلا "امتداد" للذات، تصير به الذات موضوعًا. أي أن الموضوع هو "الذات" في العالم الخارجي، أو "الذات خارج الذات" – مع التأكيد أن تعبيري "العالم الخارجي"، و"خارج الذات"، تعبيران اصطلاحيان اعتمدناهما بغية التوضيح. هذه الصورة المنعكسة، أي صورة المعلوم، يسميها ابن عربي بـ"القابِل"، كما يسميها أيضًا بـ"العين الثابتة". [19]

    نُجمِل ما تقدَّم في النقاط التالية:

    أولاً: تقول عقيدة وحدة الوجود بقِدَم الحقِّ تعالى وحدث العالم، وتقول بأن الحقَّ قديم بإطلاق. لكنها تقول أيضًا بأن العالم ليس حادثًا من كلِّ وجه: فهو قديم باعتبار "وجوده" في علم الله القديم. وعلى هذا يمكننا القول إن الحق حق والعالم حق وخلق.

    ثانيًا: تعترف عقيدة وحدة الوجود بالمباينة إلى جانب المحايثة، وبالتنزيه مع التشبيه، والإطلاق مع التقييد، والمفارقة مع الكمون، وتقرِّر أن الصلة بين الحق والخلق معنوية أو جوهرية، غير مادية.

    ثالثًا: الحق واجب الوجود بذاته، والخلق واجب الوجود بغيره. والخلق مفتقر إلى الحق من كلِّ وجه، والحق له الغنى عن العالمين. وإن كان ثمة افتقار من جانب الحق فهو من "مرتبة الألوهية"، لا من "الذات". مع البيان أن افتقار الموجِد إلى "الإيجاد" هو من غير طبيعة افتقار الموجَد إلى "الوجود".

    رابعًا: تميِّز عقيدة وحدة الوجود بين "الذات الإلهية" العارية عن الأسماء، وبين "الذات الإلهية" متَّصفة بالصفات والأسماء – وهي مرتبة الألوهية، وهي الوسيط بين الذات والعالم: تفصل الذات عن العالم، وتعقد الصلة بينهما في نفس الوقت.

    خامسًا: الوجود بحق هو لله تعالى وحده؛ وليس للخلق إلا وجود اعتباري. يترتب على ذلك أن ثنائية الحق والخلق، مادام هناك خلق، ذات قيمة نسبية؛ على حين أن الوحدة، وحدة وجود الحق، ذات قيمة مطلقة. تبعًا لذلك يمكننا القول: لا وجود إلا للحق تعالى وحده! وهذا هو المؤدَّى العميق الذي تنطوي عليه شهادة الإسلام الأولى بقولنا "أشهد أن لا إله إلا الله"، من حيث إن الوجود الحق هو الذي لا تسري عليه نواميس السببية؛ أي "واجب الوجود بذاته". أما الشهادة الثانية فتشير إلى "واجب الوجود بغيره"، مرموزًا إليه بأسمى مظهر له من المنظور الإسلامي، وهو محمد بن عبد الله (ص)، كما يؤكد ذلك العلامة السيد سيد حسين نصر.

    وما ينطبق على حالي الفناء والبقاء من حيث تلازمهما، أو ما ينطبق، على حالي وحدتي الشهود والوجود من حيث اعتبارهما مظهرين لحقيقة واحدة، ينطبق أيضًا على شهادتي الإسلام، من حيث إن الشهادة الأولى تنفي الوجود عن "السوى" وتُثبِته لله تعالى وحده. فقول المسلم العادي: "أشهد أن لا إله إلا الله" قريب جدًّا من قول الصوفي: "لا أرى شيئًا غير الله". والشهادة الثانية، إذ تعترف بوجود العالم مرتبطًا بالله تعالى في قولنا "رسول الله"، إنما تثبت العالم موجودًا بالله غير منفصل عنه؛ إذ هو منه قوام وجوده. ولذلك كان الإسلام هو وعي هذه العلاقة القائمة على أساس ألا وجود لغير الحقِّ إلا بالحق؛ وهو ما يعبِّر عنه قول الصوفي "لا أرى شيئًا إلا وأرى الله فيه".

    ولئن كان د. يواكيم مبارك يقول إن وحدة الشهود هي الإسلام بامتياز، أفلا يحق لنا أيضًا أن نقول إن وحدة الوجود هي الإسلام بامتياز؟


    *** *** ***

    [1] أحمد بن محمد بن عجيبة الحسني، إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ط 2، مصر 1972، ص 296.

    [2] الدكتور أبو العلا عفيفي، التصوف – الثمورة الروحية في الإسلام، دار الشعب، بيروت، بلا تاريخ، ص 151.

    [3] نفس المرجع السابق، ص 163.

    [4] نفس المرجع، ص 151.

    [5] نفس المرجع، ص 151-152.

    [6] نفس المرجع، ص 152.

    [7] الرسالة القشيرية، بتحقيق د. عبد الحليم محمود ود. محمود بن الشريف، مصر، بلا تاريخ، ج 2، ص 584.

    [8] الرسالة القشيرية، ج 2، ص 586-587.

    [9] أبو نصر السراج الطوسي، اللمع في التصوف، بتحقيق د. عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور، مصر 1960، ص 52.

    [10] أبو العلا عفيفي، التصوف...، ص 164.

    [11] ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين، بتحقيق محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي، بيروت 1972، ج 1، ص 61.

    [12] ابن عربي، فصوص الحكم، بتحقيق أبو العلا عفيفي، دار الكتاب العربي، بيروت، بلا تارخ، "فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية"، ص 68-69.

    [13] ابن عربي، نقله الشعراني إلى اليواقيت والجواهر، مصر 1959، ج 1، ص 65.

    [14] ابن عربي، فصوص الحكم، ص 68-69.

    [15] نفس المصدر، "فص حكمة إلهية في كلمة آدمية"، ص 53.

    [16] ابن عربي، نقله الشعراني إلى اليواقيت والجواهر، ص 38.

    [17] نفس المصدر السابق ونفس الصفحة.

    [18] هذا الحديث لاسند له، وأغلب الظن أنه من إشارات الصوفية.

    [19] أبو العلا عفيفي، شرح فصوص الحكم، ص 31 وما بعدها.


    اولا اشكر الاستاذة على ما سردت من حقائق ودرر لأهل التصوف و هذه الوجدانيات والذوقيات العالية التي لا يفهمها ولا يذوقها غير صاحبها المضنون بها الا على اهلها وعند اهل السودان مثل يقول يغنى المغنى وكل على هواه ويقولون ايضا الكلام حلو من خشم (أي فم ) سيده(اي صاحبه) فيتضح لك اخي القاريء انك مما تجده من خلال قراتك للموضوع على اهل التصوف من انكار او نفور هو مبني اساسا على اقلام وكتب وسطور وعلمت ايضا اني بكلامي لك ليس متحامل لكن اصف لك شيئا يقرب وجهات النظر ان الكاتب او المفكر يسعى وراء تحليله وبحوثه وجمع نقاط لكي يتجمع له ما يفسر به هذا الرقي العقلي او الغموض الفكري او ادعيه انت ما تدعيه من الرمز او الطلسم فانه يسرد لك في مقدمته او تحقيقه انه عثر على نسخة نادرة في مكان ما و اخرى مختلفة في الضبط و الشكل و يحتمل ان التي وجدها تالفة اجتهد بلفظه شتان ما بين شخص عاش وعرف بذلك الذوق والوجدان او كمن يعرفه من اخذوا عنه بسلسلة متصلة تلقينا ليس من لمعت له لمعة مع انه محكوم بزمانه ومكانه الذي وجد فيه ناهيك عن الحياة السياسية التي عاشها او الاجتماعية او الثقافية وهو بذلك يحكمه زمانه و يحجبه مكانه فانه قد يستعدي لنا نقاط زمن القائل وقد يختلف معه اخر مثال في مولد هذا المنقول عنه ناهيك عن حياته ومقاله ومنطقه هل هذا يعقل ولو كان لك من الانصاف لنظرت في قصة اهل الكهف لتضح لك شيء ظريف هو انه ما يتوهمهه الناس عن اهل التصوف هو باين من عدم الفهم او الانجراف وعدم الانصاف فسبحان الله ان اهل التصوف لا يعرف عنهم شيء لأنهم لايعرفون لك مالم تتعرف لخالقك هلا علمت ان ذلك من علم الغيب ونبينا الكريم مكاشف بذلك من ربه وتاسى به تتضح لك الحقائق ويعرف الحق من الباطل و تكشف لك الحقيقة فالحق لا يعرف بالرجال انما الرجال يعرفون بالحق وعلى سبيل المثال لو قرأت القرآن هل تحكم على سيدنا ابراهيم بما حكم عليه الجاهلون اهذا يعقل ؟؟! وهو قرآن يتلى قال تعالى ( فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ( 77 ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون ( 78 ) إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ( 79 )
    والله ما وجدت تفسير يطمأن له قلبي الا عند ابن عربي





    عدل سابقا من قبل Admin في الأحد يونيو 03, 2012 2:03 am عدل 3 مرات
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 1:41 am

    كتبهاmarwa kreidieh ، في 1 أيار 2010 الساعة: 17:21 م


    الإنسان و وحدة الوجود عند ابن عربي

    مروة كريدية

    "إني نظرت إلى الكون وتكوينه فرأيت الكون كله شجرة وأصل نورها من حبة "كُن"…
    .فإذا نظرت إلى اختلاف اغصان شجرة الكون ونوع ثمارها
    علمت ان أصل ذلك ناشئ من حبة "كن" بائن عنها"
    ] ابن عربي 2]

    إن مسألة كونيّة الانسان ووجوديته، وعلاقته بالكون والكائنات، تجد لها تفسيرا رائعًا عند الكثير من مفكرين والفلاسفة القائلين بنظرية "وحدة الوجود" وان كان لكل واحدٍ منهم أدواته ومرتكزاته الفكرية ومنطلقاته البنيوية التي استند اليها، إلا أنّ مسألة كهذه تبقى رهن "الذوق الفطري" للانسان وان تراءت لنا من خلال نتاجات شريحة كبيرة من الفلاسفة وحتى الأدباء؛ ومنها كتابات أفلوطين] القائلة بالفيض والصدور من خلال نظريته "التدرج الكوني " الذي يفيض عن الواحد كثرة وينتهي بالانسان،ثم عودة هذا الانسان في تجاوزه للكثرة الظاهرة إلى الأصل الواحد "4]

    وينسب بعض المتابعين انعكاسات هذه النظرية في مفهوم وحدة الوجود عند ابن عربي الذي يُعد المحور المركزي الذي يدور عليه مذهب الشيخ الأكبر؛ يقول أبو العلا عفيفي "ان فكرة الوحدة تستولي على قلب ابن عربي فيفسر بها كل شيئ في عالم الوجود"]


    § مَنعًا لأي لَبس، وحدة الوجود ليست الحلولية :

    كثيرا ما يلتبس مفهوم وحدة الوجود عند الناس وحتى عند بعض المثقفين الذين يترجمون "وحدة الوجود" بالمصطلح الغربيPantheism وهو مذهب الحلولية وفي ذلك غلط كبير.
    ويشير الباحث ديميتري أفييرينوس6]بالقول :"كثيرًا ما التبستْ مذاهبُ المشرق الباطنية جميعًا (كما وبعض مذاهب الغرب) على الباحثين الغربيين "البرانيين" (وعلى "المتغرِّبين" من أبناء الشرق أيضًا) بمذهب الحلولية pantheism. غير أن الحلولية لا تصادَف في الواقع إلا في حالة عدد من الفلاسفة الأوروبيين وبعض الشرقيين ممَّن تأثروا بالفكر الغربي في القرن التاسع عشر؛ فالحلولية نشأت عن النزعة الفكرية عينها التي تفتقت، أولاً، عن المذهب الطبيعي naturalism، ومن بعدُ، عن المذهب المادي materialism الحديث.
    يقول سيد حسين نصر: أما ما أغفله النقاد ممَّن يتهمون الصوفيين بـ"الحلولية" فهو الفرق بين التوحيد الذاتي بين الوجود الظاهر ومبدئه الوجودي وبين عينيَّتهما واستمرارهما الجوهري. وهذا المفهوم الأخير مُحال عقلاً، ويتناقض مع كلِّ ما قاله محيي الدين والصوفيون الآخرون في خصوص الذات الإلهية."[7]
    إن الحلول Pantheismمعناه امتصاص المبدأ في تجلِّياته بحيث يصبح لمكوّن أسير كائناته؛ وكأنه هي هو من كل وجه في حين أن وحدة الوجود تترجم Unity of Being[8] التي تختلف اختلافاً كليًّا عن عقيدة الحلول، وإن وجدت بين كلا النظريتين نقاط مشتركة.
    يقول نهاد خياطة : "النظريتان تتقاطعان عند اعتبارهما أن الله والعالم كينونة واحدة، وتتفارقان من حيث إن عقيدة الحلول تنفي ثنائية الحق والخلق، على حين أن وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر تعترف بثنائية الحق والخلق وتنفيها في نفس الوقت. فهي تحافظ على الثنائية فيما تقول بالوحدة، وتحافظ على الوحدة فيما تقول بالثنائية. أي أنها ثنائية في وحدة، أو وحدة في ثنائية؛ لكنها تمنح الوحدة قيمة مطلقة والثنائية قيمة نسبية."[9]

    § الانسان بين الوحدة والثنائية والكثرة :

    يقول ابن عربي بوصفه لآدم الإنسان: انه "الحضرة الجامعة الشاملة لجميع الاسماء الالهية (الكثرة) كما هو جامع بحقائق الأكوان كلها"[10]؛ فابن عربي يميز بذلك بين الحضرة التي تنتمي للغيب المطلق وبين الحضرة الهية التي تتجلى من خلال الكائنات والأسماء الكثيرة التي لا حصر لها .
    "و حضرة الواحدية، هي الحضرة (أزلية الآزال) الأولية المطلقة التي لاتعدد فيها(الوحدة)؛ اما "الأزلية الالهية فهي متعددة بتعدد الأسماء والأسماء لا تحصر كثرتها " [11]

    والحضرات عند ابن عربي خمس[12] هي:حضرة الغيب المطلق وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية؛ وحضرة الشهادة المطلقة وعالمها عالم الملك؛ وحضرة الغيب المضاف وعالمها عالم الأرواح الجبروتية؛ وحضرة الملكوت وعالمها عالم النفوس المجردة والعقول؛ وحضرة الإنسان الجامع وهي الحضرة الجامعة للحضرات الأربعة.

    أما عن مفهوم الثنائية في الحياة فيقول في حوار مفترض بين اثنين:
    "من سرائر معلوم الكونين والصورتين…صورته له وجهان … يابنيّ (الانسان) انت جامع القبضتين….وحامل الصورتين…"
    - فاخبرني عن السر الذي يرد المعادن الى معدنين ..
    "ان الأشياء المنفعلة انما تبعث من فاعلها على حقيقة وجوده في الأعيان، و أبْيَن ما يكون ذلك في الانسان "
    - وعن الامر الذي يرد المعادن الى معدنين
    "الامر موقوف على معرفة الحكمة "[13]

    هذا الحوار يكشف ان الخبرة العرفانية المؤدية الى معرفة الحكمة هي السبيل لفهم المتناقضات والعلاقة المتفاعلة بين الوحدة والكثرة ؛"إن بسط العلاقة بين اللامتعيِّن والمتعيِّن، كواقع من وقائع الخبرة العرفانية للحقيقة، يعيِّن البنيان الكلِّي لوحدة الوجود: فهي مذهب خاص يقوم على رؤيا إلهية يختبرها الصوفي بوصفها التفاعل بين الوحدة والكثرة."[14]
    لذلك فإن الشيخ الأكبر يُعلق أمر كمال الانسان بوصفه جامعًا لحقائق الأكوان كلها من خلال روحانيته ، ويقول "مقتضى الزوجية (الثنائية) إثبات الشيئ باللون (بالنوع)، ومقتضى الروحية (عدم التضاد) إيجاد الشيئ بالكون (بالوحدة) . "[15]
    وان الانسان الرائي المستنير هو ذاك القادر على ردّ القسمة والكثرة الكاثرة الى وحدة، وان تمام المقام الإنساني اي تحقيق الانسانية الكاملة، يكون عبر التآم المقسوم المتبلور في الثنائيات "الزوجية" التي هي صفات عارضة لتحقيق الوحدة الكامنة في الجوهر؛ ف"الزوجية في الأجناس والفردية في الجواهر"[16] كون جوهر الاجناس واحد و كل موجود هو تجلٍ للواجد . ف"الروح في النور جوهر لا يتجزّأ " {وهو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً}[17] "مورد القسمة (الكثرة) هي النفس الواحدة (الوحدة)".
    و"الواحد هو مُفتتح العدد، ذو الوجه الباقي وكل شيئ هالك الا هو؛ الواحد يُعبر على الأعداد فيهلك كل شيئ دونه " [18].
    و"كل موجود له عينه الثابتة في الأزل يظهر وجوده الخارجي بمقتضاها"[19] فالعالم ليس سوى تجلي الحق في صور الأعيان الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه وفق رؤية الشيخ الأكبر.

    يشير ديمتري أفييرينوس في مقاله حول "الرسالة الوجودية عند ابن عربي": "إن الأحدية التي تغيب فيها الكثرةُ الكونية أو تنعدم لا تتناقض البتة وفكرةَ عدد غير محدود من مراتب الوجود: فهاتان الحقيقتان، على العكس، وثيقتا الصلة إحداهما بالأخرى. وهذا ينجلي بمجرد أن يُنظَر في الكمال الإلهي "من خلال" كلٍّ منهما: إذ ذاك فإن الكامل، إنْ صحَّ التمثيل، "يضيق" أو "يتسع" بحسب ما يُنظَر إليه إما في تعيُّنه المبدئي، أي الأحدية الذاتية، وإما في انعكاسه الكوني، أي طبيعة الكون الذي لا تنضب تجلِّياتُه ولا تنفك تتعيَّن. يدل على ذلك قول الشيخ الأكبر:

    خالقَ الأشـياءِ في نفسـه * أنـتَ لِمَــا تخـلقُـه جـامــعُ
    تخلقُ مـا لا ينتهـي كونُـه فيـ * ـك فأنـتَ الضـيِّقُ الواسـعُ"[20]

    ****



    [1]محيي الدين ابن عربي ، رسالة شجرة الكون، تحقيق رياض العبد الله ، دمشق ، سوريا،1985، ص 41- 45.
    [2]محيي الدين أبو بكر محمد بن علي، المعروف بالشيخ الاكبر ابن عربي، ولد في مرسيه بالأندلس1165م وتوفي في دمشق1240م، ويعد الشارح الأكبر للتصوّف وصاحب نظرية وحدة الوجود في الفلسفة الاسلامية.
    [3] أفلوطين Plotin وُلد في ليكوبوليس أسيوط اليوم في صعيد مصر عام 205. ومات بروما عام 270 بعد الميلاد. توصف فلسفة أفلوطين بأنها تأملية ويرى ان العناصر الدنيوية ما هي الا صور لمثيلها الحقيقي الأعظم والأسمى.
    [4]أفلوطين، التساعية الرابعة، في النفس، تحقيق ودراسة : فؤاد زكريا، الهيئة المصرية للكتاب ، القاهرة ، مصر ، 1970 ، ص 27 – 28 .
    [5]محيي الدين ابن عربي ، الفتوحات المكية ، مقال أبو العلا عفيفي، ص167.
    [6]ديميتري أفييرينوس،الرسالة الوجودية لابن عربي ، دراسة، سماوات،30 اكتوبر 2009.

    [7]سيد حسين نصر، ثلاثة حكماء مسلمين، ترجمة صلاح الصاوي، مراجعة ماجد فخري، دار النهار، بيروت، لبنان ، 1986، ص 138.
    [8]بعض المعاجم والموسوعات تترجم مصطلح وحدة الوجودPantheismوفي ذلك خطأ فيرجى التنبّه للأمر أثناء البحث والدراسة والافضل اعتماد ترجمة وحدة الوجود: Unity of Being أو بالفرنسية Unicité de l’Être.
    [9]نهاد خياطة، التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود، دراسة ، معابر، الاصدار الثالث ، الربع الثاني من عام 2001 .
    [10]محيي الدين ابن عربي، كتاب: نسخة الحق، مجموعة رسائل ابن عربي ، الجزء الأول، تحقيق: سعيد عبد الفتاح ، دار الانتشار العربي، بيروت 2001 ص 273
    [11]محيي الدين ابن عربي، رسالة أسرار الذات الإلهية، مجموعة رسائل ابن عربي، المرجع السابق ، ص 199 -200 .
    [12]سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، الحكمة في حدود الكلمة، دندرة للطباعة والنشر، بيروت ، لبنان ، ط1 ، 1981
    [13]محيي الدين ابن عربي، كتاب شق الجيب بعلم الغيب، مجموعة رسائل ابن عربي ، تحقيق سعيد عبد الفتاح ، مرجع سابق، ص : 322 – 325 .
    [14]ديميتري أفييرينوس، حكيم المشرق والمغرب، مقدمة موجزة لدراسة حياة الشيخ الأكبر ومذهبه، سماوات، 3 سبتمبر 2009 .
    [15]محيي الدين ابن عربي، كشف سرّ الوعد وبيان علامة الوجد، رسائل ابن عربي، شرح مبدأ الطوفان، تحقيق: قاسم محمد عباس، حسين محمد عجيل، منشورات المجمّع الثقافي ، ابو ظبي ، الإمارات ، ط 1 ، 1998 ص 342
    [16] المرجع السابق نفسه، ص 258 .
    [17]سورة النساء، الآية 1 .
    [18]محيي الدين ابن عربي ، المقدار في نزول الجبّار، رسائل ابن عربي، المرجع السابق نفسه ص 265 .
    [19]محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم ، تحقيق وشرح أبو العلا عفيفي ، دار الكتاب العربي، ط2 ، 2002 ص : 23 – 61.
    [20] ديميتري أفييرينوس، الرسالة الوجودية لابن عربي، المرجع السابق المقال نفسه.
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 1:50 am

    الشيخ محيي الدين بن عربي ومذهبه في الحب ( محاورة )

    بسم الله الرحمن الرحيم

    شـاعر دينـه …الحـبّ
    بقلم : نصر الدين البحرة



    عرفت اسمه منذ الطفولة، ذاك أن أحد خطوط الحافلات الكهربائية في دمشق، كان ينتهي على بعد أمتار من المسجد الذي يحمل اسمه. وسمعت بعض الكبار يتحدثون عنه ويلهجون بالثناء عليه. ثم كان أن قرأت لمعا من أخباره.. ولكن هذا كله لم يكن شيئاً إذا وضع في كفة ميزان، يعادل الرحلة الطويلة البعيدة التي أخذتنا فيها الدراسة الأكاديمية نحو شواطئه.

    ذاكم هو محمد بن علي أبو بكر الحاتمي الطائي الأندلسي. المعروف بمحيي الدين بن عربي والملقب بالشيخ الأكبر. وهو في الحقيقة ذلك الفيلسوف العربي العظيم الذي ولد في "مرسية". وليس في مورسيا كما ذكر خطأ- في الأندلس في أواسط القرن الميلادي الثاني عشر 1165، ثم انتقل إلى أشبيلية، حيث كان أجداد ابن خلدون- ولم يلبث أن قام برحلة طويلة انتهت به إلى دمشق فأحبها وأحبته وأقام فيها بقية أيام حياته. وكان حب الناس له فيها، وتعلقهم بذكره وذكراه حتى الآن، خير شاهد على أنها تظل عاصمة لعرب، في كل زمان.

    لم تكن حياة محيي الدين بن عربي قصيرة ذاك أنه عاش خمساً وسبعين سنة حافلة. وفي مثل تلك الأيام التي تكلم وتصرف وكتب فيها، لم يكن هيّناً اتخاذ المواقف، كما نقول الآن.. كانت حادثة بسيطة يسيء فهمها عامة الناس، ويستغلها الأوباش المرتزقة، تكفي.. لا، لتعكير حياة رجل كبير مثل ابن عربي فحسب، بل.. لإراقة دمه وقتله، على هذا النحو أو ذاك، مثلما حدث مع الحلاج، ومثلما كان يمكن أن يحدث للشيخ الأكبر في القاهرة لولا أن سعى أحد الكرام فأنقذه من محنته فنجا، ثم غادر…

    ابن عربي في الزمن الصعب :

    المذهل أن الشيخ محيي الدين، في ذلك الزمن الصعب الذي كان، والصليبيون ما يزالون في أجزاء من بلادنا، وإن كانوا قد تلقوا تلك الضربة القاصمة على يدي الناصر صلاح الدين في حطين.. في تلك الأيام التي وصلت فيها الثقافة العربية إلى أسوأ أيامها، والجهل شيء مخيف مرعب في الشارع، كان عليه أن يقرأ وأن يتكلم وأن يكتب.. فماذا كتب..

    يقول خير الدين الزركلي في الأعلام إنه كتب نحو أربعمئة كتاب ورسالة، فإذا استعرضنا ما يمكن الوقوف عنده منها، كان لنا أن نتساءل من جهة، هل كان هذا الرجل موسوعة؟ وكان لنظرنا أن يلتفت من جهة ثانية إلى هذه السمة الخاصة التي ميزت فكره وزانت حياته وتجلت في مؤلفاته. فكأنه كان مقيداً ذلك التقيّد –الحر الجميل الذي ينبع من داخل، بما يسميه المفكرون الآن مذهباً، إن كانت هذه ترجمة مقبولة للكلمة.

    ماذا قالت قطرة المطر:

    وحدة الوجود.. حسناً. إنها هذه النظرة الشاملة إلى الله ومخلوقاته، الإنسان والكون، كل ما فيه يسبّح باسمه ويشهد بجماله. وهل جمال الموجودات إلا صورة من جمال الموجد؟ لقد كان الشيخ أكثر من قانع مؤمن بهذه النظرة الشاملة، ذاك أنه كان يذهب في أحيان كثيرة إلى حدود الانفعال الصادق. ومن هذا القبيل ما يروى عنه. حين مر يوماً بميزاب تتقطر منه نقاط بعد مطر في إيقاع التقطه الشيخ، فرأى فيه القصة كاملة، ذاك أن القطرة الواحدة حين تصطدم بالماء المتجمع تحت الميزاب كانت تقول: الله.. الله..

    هكذا سمع ابن عربي.

    وانظر إلى هذه الأسماء التي تغلفها النزعة الشاعرية الصوفية معاً، وهل يمكن أن يكون تصوف دون شعر، وهل يمكن فصل الشعر عن روح التصوف، مهما يبعد به المزار عن شاطئ المتصوفة: الوعاء المختوم.. درر السرّ الخفي، الأنوار، شجرة الكون، اللمعة النورانية، فتح الذخائر والأغلاق، شرح ترجمان الأشواق، عنقاء مغرب. فصوص الحكم.. شقّ الجيب.. الخ...

    أراد الشيخ الأكبر في ذلك العصر التعيس أن يوقظ الناس، على طريقته الحبيبة الرحبة الواسعة كصدره. أحب أن يقول لهم: دعكم من ظواهر الأمور وسطوحها وقشورها. انتبهوا إلى الجواهر، وهناك إذا شئتم تقدرون أن تتوغلوا أو تتغلغلوا.

    مكمن الإيمان الحقيقي :

    كان في وده أن ينبههم إلى أن الإيمان الحقيقي، يمكن أن يكون في ذلك الخافق الصغير، بعيداً عن الشكليات، ولعله كان يصلي صلاة ربما اختلفت عن صلاة المؤمنين في المسجد، حين راح يترنم ويتواجد وهو يسمع اسم الله ، في نقاط الماء المتقطرة.

    وبالدرجة ذاتها كان ينكر على أولئك اللاهثين وراء العَرَض الزائل مساعيهم الخائبة، ومن هنا كان احتقاره المرير لتلك النزعات المادية لدى بعضهم بالمعنى المبتذل لهذه الكلمة: المادية. وفوق هذا وذاك أعلن الشيخ محيي الدين الحب، راية له وغاية. به يصل إلى فهم أسرار الكون ويقدر أن يمسك هذا الخيط الناعم الخفي الذي يشد المخلوقات والكائنات، إلى بعضها بعضاً، ويستطيع أن يتجاوز ما هو آني وظاهري، ويتعالى على السفاسف والصغائر والهنات. وها هو ذا يشرح مبادئه الجميلة أي شرح:



    لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ=فدير لرهبان ومأوى لغزلانِ
    وترتيل إنجيلٍ وترنيم كعـبةٍ=ومصحف توراة وآيات قرآنِ
    أدين بدين الحب آنّى توجهت=ركائبهُ فالحب ديني وإيماني

    1
    2
    3 لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ فدير لرهبان ومأوى iiلغـزلانِ
    وترتيل إنجيلٍ وترنيـم iiكعبـةٍ ومصحف توراة وآيات iiقرآنِ
    أدين بدين الحب آنّى iiتوجهت ركائبهُ فالحب ديني iiوإيمانـي



    بلى، إن المستشرق الإسباني خوسيه لويس كاميرى، قد تلقى جيداً رسالة ابن عربي، ولولا ذلك فما الذي كان يمكن أن يحمله على إرسال تلك الحفنة من تراب "مرسية" مسقط رأسه إلى دمشق.. حيث كانت خفقة قلبه الأخيرة؟ أليس هذا هو المبدأ الأول في ديانة الحب؟

    ابن عربي.. شاعراً :

    لم يكن بدعاً أن تتفتح سليقة الشيخ محيي الدين بن عربي الشعرية، وهو يعيش بين أكناف تلك الطبيعة الأندلسية الساحرة "فقد أحاطت بها المياه من أعظم جوانبها، وتمتعت بتربة خصبة صالحة، لما نما فيها من أشجار باسقة وأزهار متفتحة وثمار يانعة. وتعددت فيها الأنهار التي من أهمها النهر الكبير، ونهر تاجة. وذلك إلى جانب ما يوجد فيها من جبال متدرجة، تثمر على سطوحها مختلف الزروع وشتى الثمار(1)."

    فإذا أضفنا إلى ذلك صدق انتمائه العربي وصفاء نجاره فهو "الحاتمي الطائي" بإجماع كتّاب سيرته، سهل علينا معرفة تهيؤ الفرصة لظهور موهبته الشعرية. ولا يغيب عن البال أن ما زودته به فطرته النقية من إحساس مرهف وانفعال صادق، ونظرات ذكية فاحصة متأملة إلى كل ما يقع تحت بصره، وسمعه أيضاً، كان خير زاد لتغذية الموهبة عنده، مرفودة بمَنْ تتلمذ على أيديهم، من علماء وأدباء، ومَنْ عاشرهم من شعراء وقراء "فأستاذه في القراءات" أبو القاسم الشراط" كان بصيراً باللغة وآدابها، وله حظ من قرض الشعر. وأستاذه "أبو محمد عبد الحق الإشبيلي" كان أديباً وشاعراً. من شعره:




    إن في الموت والمعاد لشغلا= لأولي الدين والنهى وبلاغا
    فاغتنم خطتين قبل المنايا=صحة الجسم ياأخي والفراغا

    1
    2 إن في الموت والمعاد iiلشغلا لأولي الدين والنهى وبلاغـا
    فاغتنم خطتين قبل iiالمنايـا صحة الجسم ياأخي والفراغا



    وشيوخه في التصوف كان أغلبهم أدباء فنانين، لهم الباع الطويل في فنون النظم والنثر، ومن بينهم "المارتلي" و"أبو مدين" وكلاهما له أدب جيد رفيع"(2) .

    كتب قرأها ابن عربي:

    وكان الشيخ الجليل قارئاً نهماً، ذكر في مقدمة كتابه "محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار.." كثيراً من الكتب التي قرأها، وبينها في فنون الأدب الكتب التالية: "الأماني".. لأبي المعالي البغدادي نزيل قرطبة. و"ريحانة العاشق" لأبي القاسم المسور و"روضة الأنس" لأبي زيد السهيلي، و"الكامل" للمبرد. و"زهر الآداب".. للحصري و "المحاسن والأضداد" للجاحظ و"معاناة العقل" للحلوي و"الحماسة" لأبي تمام.. وسوى ذلك.

    وكان هذا بين ما رشحه لتولي منصب "كتابة الإنشاء" في ديوان إشبيلية في شبابه.

    وكانت لابن عربي مشاركات طيِّبة في مجالس الأدب. من ذلك مثلاً ما يرويه عبد العزيز سيد الأهل(3)، فقد أنشد بعض المتصوفة ابن عربي بيتاً مفرداً هو:


    كل الذي يرجو نوالك أمطروا=ما كان برقك خُلَّباً إلاّ معي

    فكتب الشيخ محيي الدين أبياتاً ضمَّنها هذا البيت:




    قِف بالطلول الدراسات بلعلعِ=واندب أحبّتنا بذاك البلقعِ
    قِف بالديار وناجها متعجـباً=منها بحُســنِ تلطُّفٍ وتفجــعِ
    عهدي بمثلك عند بانك قاطعاً= ثمرالخدود وورد روضٍ أيـنعِ
    كل الذي يرجو نوالك أُمطروا= ما كان برقك خلباً إلا معـي
    قالت: نعم، قد كان ذاك الملتقى=في ظل أفناني بذاك الموضعِ(4)

    1
    2
    3
    4
    5 قِف بالطلول الدراسات iiبلعلـعِ وانـدب أحبّتنـا بـذاك البلقـعِ
    قِف بالديـار وناجهـا iiمتعجبـاً منها بحُسـنِ تلطُّـفٍ iiوتفجـعِ
    عهدي بمثلك عند بانك iiقاطعـاً ثمرالخدود وورد روضٍ iiأينـعِ
    كل الذي يرجو نوالك iiأُمطـروا ما كان برقك خلبـاً إلا iiمعـي
    قالت: نعم، قد كان ذاك iiالملتقى في ظل أفناني بذاك الموضعِ(4)



    ابن عربي.. وملكة الملاحظة :

    وكان ابن عربي منطوياً على ناقد متمتع بملكة ملاحظة ممتازة. وفي كتابه "محاضرة الأبرار" لمع تشير إلى ذلك، من ذلك مثلاً نقده قول شاعر في الجود:




    فتى عاهد الرحمن في بذل ماله= فلستَ تراه الدهر إلا على العهدِ
    فتى قصَّرت آماله عن فعاله=وليس على الحُرِّ الكريم سوى الجهدِ

    1
    2 فتى عاهد الرحمن في بـذل iiمالـه فلستَ تراه الدهر إلا علـى iiالعهـدِ
    فتى قصَّـرت آمالـه عـن iiفعالـه وليس على الحُرِّ الكريم سوى الجهدِ



    يقول الشيخ محيي الدين معلقاً:



    "هذا المديح أقرب للديانة من الكرم، فإنما عطاؤه من أجل الوفاء بعهده مع الله، حتى لا يكون من الذين ينقضون عهد الله. والكريم سجيته الكرم، فلا يحتاج إلى القسم عليه إلا لعلة نفسه. فما وفى هذا الشاعر مدح هذا في الكرم ما تصور له في خاطره، فهذا اللفظ دون ما في القصد."

    ويجيء تعليقه تارة أخرى، شعراً. فهو يختار من "جيد" شعر غيره قول القائل:

    لئن ساءني أن نلتني بإساءة ...لقد سرني أني خطرت ببالكا

    فيقول: وأحسن منه لو قال ما قلنا:

    لئن سرّني أن نلتني بمساءة ...فما كان إلا أن خطرت ببالكا

    لأن الأول قد أقر بأنه أساء، ثم اعتذر.

    ويذكر من "أحسن الشعر" قول آخر في الشكوى

    فالليل إنْ وصلت كالليل إن هجرتْأ...شكو من الطول ما أشكو من القصر

    معلقاً بقوله: أحسن منه ما قلنا:

    شغلي بها بالليل أو هجرت ... فما أبالي أطال الليل أم قصرا

    ثم يستطرد: "فإن الأول شغله بطول الليل وقصره من أجلها، فهو فاقد لها في زمن الاشتغال بغيرها.

    والثاني شغله بها ومن سواها تبع"(5)


    وحدة الوجود والحب الإلهي في مؤلفاته :

    ترك ابن عربي مؤلفات كثيرة، فقد كان غزير الإنتاج في مختلف مجالات الإبداع، من منظوم ومنثور، وإن تكن تصب جميعاً في مذهبه الفلسفي الصوفي في "وحدة الوجود" و"الحب الإلهي" وفيها أعماله الشعرية، وبينها "الديوان الأكبر" وديوان الأشواق، وديوان المرتجلات، والقصيدة التائية وقصيدة في المناسك. وترجمان الأشواق وشرحه عليه المسمّى: ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق.

    أغراضه الشعرية :

    على الرغم من أن شعر ابن عربي يدور في معظمه حول المعاني الصوفية، كما يحب هو أن يؤكد عامة، ولا سيما في مقدمة شرحه "ترجمان الأشواق" إلا أن فيه قصائد يمكن أن توصف بأنها اجتماعية. من ذلك مثلاً هذان البيتان اللذان وردا في إجابة سؤال سأله بعض أصحابه إياه:

    كيف حالك مع أهلك؟ فأجاب:




    إذا رأى أهل بيتي الكيس ممتلئاً= تبسمت ودنت مني تمازحني
    وإن رأته خلياً من دراهمه=تكرهت وانثنت عني تقابحني (6)

    1
    2 إذا رأى أهل بيتي الكيس iiممتلئـاً تبسمت ودنـت منـي تمازحنـي
    وإن رأته خليـاً مـن iiدراهمـه تكرهت وانثنت عني تقابحني (6)



    ولم يقتصر موقفه من مسألة "المال" على أهل بيته فحسب، بل كان أشمل من ذلك. وعلى الرغم من كرمه وزهده المعروفين، فإنه رأى أن المال هو عصب الحياة، وإن يكن ينصح "أن يكون الإنسان غنياً بالله لا بالمال":



    بالمال ينقاد كل صعب ... من عالم الأرض والسـماءِ
    يحســـبه عالم حجـاباً... لم يعرفوا لذة العـطاء
    لولا الذي في النفوس ... منهلم يُجب الله في الدعاء
    لا تحسب المال ما تراه... من عسجد مشـرق الضــياء
    بل هو ما كنت يا بيّ ... يبه غنــياً عن الســـواء
    فـكن برب العلا غنيـاً... وعامل الخلق بالـوفــاء (7)



    ويتصل بهذا الموقف نظرته في الزهد:

    لا تندمنَّ على خير تجود به... وإن أغاظك من تعطيه واقترفا
    فالله يرزق من يعطيه نعمته ... سواء أنكرها كفراً أو اعترفا

    ويدخل في هذا الباب "الاجتماعي" رأيه في الإخلاص في العمل والبعد عن الرياء:

    إن كنتَ لي أكون لكْ ... ماأنت لي ماأنا لكْ
    فاصغ إلى قولي تجد... صحة ما قد قلتُ لــك
    ولتلتزم طريقــتي ... واجهد وخلص عمـــلك
    تنـل بـما جئت به ... من كل خير أملــــك (Cool


    وكتب ابن عربي في وصف الطبيعة. وقد أورد في "محاضرة الأبرار" أبياتاً لأبي علي بن شبل في وصف الربيع عارضها بقوله:

    أما ترى الروضة الغناء تضحك ...إذ جادت على الأرض بالأزهار أنواءُ
    تبسم الأرض إذ تبكي السماء فهل... بين السماء وبين الأرض شحناءُ
    والأرض تأبى الذي قالته والماءُ ... لا والذي بضروب الزهر أضحكها

    وعلى الرغم من أنه شغل في كثير من شعره بالتصوف، إلا أن بين شعره أبياتاً نكاد نرى أنها انصرفت إلى المعاني الحسية. ولو أنها كانت بالفعل كذلك، لرأينا أنها "صورت كل ما يمكن تصويره من ألم البعد والفراق إلى جانب التحسر على جمال المحبوب الذي اصطبغت وجنته بحمرة الخجل"9-
    يقول الشيخ محيي الدين في "ترجمان الأشواق":




    غادروني بالأثيل والنقا= أسكب الدمع وأشكوالحُرَقا
    بأبي مَنْ ذبتُ فيه كمدا = بأبي مَنْ مـتُّ فيه فــرقا
    حمرة الخجلة في وجنته = وَضَح الصبح يناغي الشفقا
    قوّض الصبرُ فطنّب الأسـى = وأنا ما بين هذين لــقى
    مَنْ لبَثّي مَنْ لوجدي؟ دلّني!= مَنْ لحزني مَنْ لصبٍ عشقا
    كلما ضنت تباريح الهوى =فضح الدمع الهوى والأرقا

    1
    2
    3
    4
    5
    6 غادروني بالأثيـل iiوالنقـا أسكب الدمع iiوأشكوالحُرَقـا
    بأبي مَنْ ذبتُ فيـه iiكمـدا بأبي مَنْ مـتُّ فيـه فرقـا
    حمرة الخجلة في iiوجنتـه وَضَح الصبح يناغي iiالشفقا
    قوّض الصبرُ فطنّب iiالأسى وأنا ما بيـن هذيـن iiلقـى
    مَنْ لبَثّي مَنْ لوجدي؟ دلّني! مَنْ لحزني مَنْ لصبٍ iiعشقا
    كلما ضنت تباريح iiالهـوى فضح الدمع الهوى iiوالأرقا


    (10)


    وعلى الرغم من إشاعته جواً من "وحدة الوجود" الصوفية وأطيافها في بعض شعره، فإن معاني "الحب الحقيقي" تنم عن نفسها فيه. وهذا ما يتجلى، على نحو خاص في ما كتبه في "محاضرة الأبرار" بل إنه يصرّح هنا أخيراً باسم حبيبته النظام:




    إن الهوى ما أنا للحب حامله = والحلم للحب في الأشخاص ليس لنا
    مثل الصفات لدى قوم أشاعـرة =فلا الهوى هو غيري لا ولا هو أنا
    إن الهوى وأنا بالعـين متـحد = فإن أمت فيه وجداً، أوْ أعش، نحبنا
    لولا الجمال الذي بالحب كلفنا = لم يُهلك الوجدُ قلب الصب والبدنا
    إن النظام لتدري ما أفـوه به =وقد أشرت إليه مرة "بمنى"(11)

    1
    2
    3
    4
    5 إن الهوى ما أنـا للحـب iiحاملـه والحلم للحب في الأشخاص ليس لنا
    مثل الصفات لدى قـوم iiأشاعـرة فلا الهوى هو غيري لا ولا هو iiأنا
    إن الهـوى وأنـا بالعيـن متحـد فإن أمت فيه وجداً، أوْ أعش، iiنحبنا
    لولا الجمال الـذي بالحـب iiكلفنـا لم يُهلك الوجدُ قلب الصب iiوالبدنـا
    إن النظام لتـدري مـا أفـوه iiبـه وقد أشرت إليه مرة ii"بمنـى"(11)




    وفي شرح ابن عربي "ترجمان الأشواق" كتب مقدمة ضافية تحدث فيها عن نزوله "مكة" المكرمة سنة 598هـ، حيث عرف "الشيخ العالم الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام، نزيل مكة البلد الأمين مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم ابن أبي الرجا الأصفهاني، رحمه الله تعالى وأخته المسنة العالمة شيخة الحجاز فخر النساء بنت رستم" (12)

    ثم يصف ابنة الشيخ (النظام) :

    ويطنب في الحديث عن هذا العالم الفاضل وأخته فخر النساء التي اعتذرت عن لقائه، كما يذكر، وكان يريد "أن يسمع عليها وذلك لعلوّ رايتها"، لكنها "أذنت لأخيها أن يكتب لنا نيابة عنها، إجازة عنها في جميع روايتها فكتب.."(13)

    وينتهي بعد ذلك إلى بيت القصيد، أي "النظام" ابنة الشيخ زاهر بن رستم فيصفها قائلاً:

    "بنت عذراء، طفيلة هيفاء، تقيّد النظر، وتزين المُحاضر والمَحاضر، وتحيرّ الناظر، تسمى بالنظام، وتلقب بعين الشمس والبها، من العالمات العابدات السايحات الزاهدات شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلا مَيْن، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبتْ أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت. إن نطقت خرس قس بن ساعدة، وإن كرمت خنس معن بن زائدة، وإن وفت قصر السموأل خطاه" (14).

    ثم ينتهي إلى أنه راعى "في صحبتها كريم ذاتها مع ما انضاف إلى ذلك من صحبة العمة والوالد" "فقلدناها من نظمنا في هذا الكتاب أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغ في ذلك بعض ما تجده النفس ويثيره الأنس" ويوضح أنه أعرب "عن نفس تواقة" و"كل اسم أذكره في هذا الجزء، فعَنها أُكنّي، وكل دار أندبها فدارها أعني".. ثم لا يلبث بعد أن أخذه اتجاه الحب والغزل هذا المأخذ أن يعود فيستدرك قائلاً: "ولم أزل في ما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جرياً على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى". ومع أنه جمع في درج كلامه هذا بين "النسيب" وبين "التصوف" لكنه آثر أخيراً أن يؤكد أهمية انتباه قارئه إلى المعاني الصوفية لئلا "يسبق خاطرة إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العلية، المتعلقة بالأمور السماوية" 15-

    ابن عربي يتحدث عن سبب شرحه الديوان :

    لا بد من أن نضيف هذا التأكيد من الشيخ محيي الدين على المعاني الصوفية، ليتضح لنا ما دعاه إلى شرح "ترجمان الأشواق" ذاك أنه أثار فقهاء ذلك الزمن الذين رأوا فيه غزلاً صريحاً أخذوه عليه.

    يقول ابن عربي في مقدمته:

    "وكان سبب شرحي لهذه الأبيات أن الولد بدراً الحبشي والولد إسماعيل بن سودكير سألاني في ذلك: وهو أنهما سمعا بعض الفقهاء بمدينة حلب ينكران هذا من الأسرار الإلهية، وأن الشيخ "يعني نفسه" يتستر لكونه منسوباً إلى الصلاح والدين، فشرعتُ في شرح ذلك، وقرأ علي بعضَه القاضي ابن العديم بحضرة جماعة من الفقهاء، فلما سمعه ذلك المنكر الذي أنكره تاب إلى الله سبحانه وتعالى ورجع عن الإنكار على الفقراء، وما يأتون به في أقاويلهم من الغزل والتشبيب يقصدون في ذلك الأسرار الإلهية"(16).

    ويقول إن ما نظمه بمكة المشَّرفة من "الأبيات الغزلية"، إنما يشير بها إلى معارف ربانية وأنوار إلهية وأسرار روحانية وعلوم عقلية وتنبيهات شرعية، ولم تكن العبارة التي جعلها "بلسان الغزل والتشبيب"، سوى ذريعة وواسطة "للإيصال" ـ بلغة هذا الزمن ـ لماذا؟

    "لتعشُّق النفوس بهذه العبارات، فتتوفر الدواعي على الإصغاء إليها، وهو لسان كل أديب ظريف وروحاني لطيف"(17).

    بين الباطن وبين الظاهر :

    وعلى الرغم من أنه أعلن قبل سطور قليلة أن كل اسم يذكره فعَنْها يكنّي، وكل دار يندبها فدارها يعني، فهاهو ذا يتراجع عن ذلك مكرساً قصيدة يوضح فيها أن المعاني التي يرمي إليها في قصائد هذا الديوان، إنما هي الباطنة المتضَّمنة، وليس المعنى الظاهر. إنه ينفي في هذه القصيدة أن يكون قد عنى أي مظهر حسي في ذاته، من أطلال أو ربوع أو سماء أو سحب أو بروق أو رعود، أو سهول أو جبال، أو بشر: "هو ـ هي ـ هم ـ هن":


    كلّما أذكره من طلل ...أو ربوع أو مغانٍ كلما
    وكذا إنْ قلتُ"ها"أو قلتُ "يا"... وألا إنْ جاء فيه أو.. أَمَا
    وكذا إنْ قلتُ"هي"أو قلت "هو"...أو "همو" أو "هنَّ" جمعاً أو "هما"
    وكذا إنْ قلتْ قد أنجــــدلي ... قدر في شعرنا.. أو أتهـما
    وكذا السحب إذا قلت : بكـت ... وكذا الزهر إذا ما ابتسما
    أو أنادي بحداة يمّــمـــوا ... بانةَه الحاجر أو ورق الحمى
    أو بدورٌ في خدور أفلـــــت ... أو شموس أو نبات أَنْجَمَا
    أو بروق أو رعود أو صـــبا ... أو رياح أو جنوب أو سما
    أو طريق أو عقيق أو نـــقا ..أو جبال أو تلال أو رمـــا
    أو خليل أو رحيل أو ربـــى ... أو رياض أو غياض أو حمى
    أو نساء كاعبات نُهَّـــــــدٌ ... طالعات كشموس أو دمـــى
    كلما أذكره مما جـــــــرى ... ذكره أومثله أن تفهـــما
    منه أسرار وأنوار جـــــلت ... أو علت جاء بها رب السما
    لفؤادي أو فؤادِ مَنْ لـــــه ... مثل مالي من شروط العلما
    صفة قدسية عــــــــــلوية ... أعلمتْ أن لصدقــــي قدما
    فاصرف الخاطر عن ظاهـــرها .,.. واطلب الباطن حتى تعلما(18)


    ودعماً لمذهبه في تغليب الباطن على الظاهر يروي حكاية جرت في الطواف. يقول الشيخ محيي الدين:

    "كنت أطوف ذات ليلة بالبيت فطاب وقتي وهزني حال كنت أعرفه، فخرجت من البلاط من أجل الناس، وطفت على الرمل، فحضرتني أبيات فأنشدتها أُسمع بها نفسي ومَنْ يليني لو كان هناك أحد، وهي قوله:


    ليت شعري هل دروا... أيَّ قلب ملكــــوا
    وفؤادي لــــودرى...أيَّ شِعب سلكـــــوا
    أتراهم سلمــــوا...أم تراهم هلكـــوا
    حار أرباب الهوى ...في الهوى وارتبكوا


    ويستطرد قائلاً: "فلم أشعر إلا بضربة بين كتفيَّ بكفٍ ألين من الخز، فإذا بجارية من بنات الروم لم أر أحسن منها وجهاً، ولا أعذب منطقاً، ولا أرق حاشية، ولا ألطف معنى، ولا أدق إشارة، ولا أظرف محاورة منها، قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة". ثم يروي مادار بينهما من حوار، حول أبياته الأربعة، ووصول معانيها الباطنة إليها.(19).


    ابن عربي يقبل تحدي الحب :

    مهما يكن من أمر، فإن الدكتور عبد الكريم اليافي يرى أن علاقة الشيخ الأكبر "بالنظام" كانت تحدياً قوياً جابهه، بثقة بالغة في النفس، دون أن يخشى أي ريبة يمكن أن تعلق به. يقول:

    "إذا شاء القدر، فألقى فتاة في ريق الشباب ومقتبل الحسن، "ساحرة الطرف عراقية الظرف"، تسمى بالنظام في طريق إمام من أئمة العارفين مثل ابن عربي فماذا يحصل؟ لوكان الرجل من رعيل الصوفية القدامى لخشي الفتنة وحذر، أو لم يلقَ إليها بالاً.. ولكن شيخنا الأكبر، أمام هذه الفتاة الرائعة المثيرة، كان في مقام من المعرفة والحب الإلهيين يستطيع فيه كالشعاع أن يغازلها ويتغزل بها ثم يرتد عنها كما يرتد الشعاع صافياً نقياً دون أن تعلق به ريبة"(20).

    بل إن الدكتور اليافي يرى ضرباً من العلاقة الجدلية بين الأمور الروحية وبين الأمور الحسية في شعر ابن عربي ذاك أن "الأمور الروحية ثاوية في الأشياء والأشكال والأمور الحسية، ثواءَ المعاني في الألفاظ والحروف".

    وهذه الأمور الحسية والأشياء والأشكال على اختلافها عماد تلك وسندها وظروفها الخارجية، وهذه بالنسبة إلى تلك كاللغز بالنسبة إلى المعنى الملغز فيه. بل إن الجمع بين الحس والفكر في الإنسان أكمل وأعلن من انفراد الروح وحده. يقول على لسان نبينا إبراهيم: "يابني إذا سريت بفكرك في عالم المعاني انحجب حسك عن التلذذ بالمغاني.وإذا سرى حسك في عالم المغنى، لم ينحجب سرك عن مشاهدة المعنى، فالبقاء مع الحس أَوْلى في الآخرة والأُولى"(21).


    من نظرية الشيخ إلى مذهبه الفلسفي :

    على أن للدكتور أبو علا عفيفي رأياً آخر، فقد دعا هذا "الحب" كما يؤثر ابن عربي أن يسميه "الحب الإلهي"، ورأى أن نظرية الشيخ في الحب الإلهي متفرعة عن مذهبه الفلسفي الصوفي العام الذي هو مذهب وحدة الوجود. بل هي لازم من لوازم هذا المذهب ونتيجة من نتائجه. والقضية الكبرى التي يُخضع لها ابن عربي كل فلسفته والتي يؤيدها بشتى أساليب التأييد هي أن الوجود في حقيقته وجوهره شيء واحد، متعدد متكثر في النظر والاعتبار.. عندما يقع عليه الحس الذي لا يدرك إلا الجزئيات المتعينة المتشخصة، أو يتناوله العقل الإنساني القاصر عن إدراك وحدته الشاملة، فإن العقل خاضع في تفكيره لمقولاته، ومقولاته مستمدة من العالم الخارجي المتعدد المتكثر، الواقع في الزمان والمكان، أما الحقيقة الوجودية الكلية فخارجة عن كل هذا.(22).


    ولاشك أن هذه الفكرة هي مارمى إليه الشيخ الأكبر في قصيدته التي أوردها في مقدمة شرحه: "ترجمان الأشواق"، ومطلعها:

    أو ربوع أو مغان كلما*
    كلما أذكره من طلل
    من مجالي الجمال الإلهي

    وعلى هذا النحو، وانطلاقاً من نظرية ابن عربي في الحب الإلهي يتابع الدكتور عفيفي تفسيره حب الشيخ تلك الحسناء "النظام"، فلاشك أنه "قد وجد في تلك الصورة الإنسانية الحسناء، مجلى من مجالي الجمال الإلهي المطلق الذي تعشَّقه وقدسه، وألفى لها مكاناً من قلبه، لا من حيث هي امرأة يعشق جمالها الحسي الفاني، ولا من حيث هي موضع لشهوة أو هوى، بل من حيث هي رمز لذلك الجمال الشامل المتجلي فيها في صورة كاملة.

    فإذا بثها حبه وأشواقه، فإنما يتجه بحبه وأشواقه إلى الذات الإلهية التي هي صورة من صورها. وإذا وصفها بما يصف به الغزلون من الشعراء محبوباتهم، فإنما يصف ذلك الرمز مكِّنياً به عن الحقيقة الكلية التي هي وراءه. ولذا كانت لغة "ترجمان الأشواق" لغة رمزية اصطلاحية يجب تأويلها وصرفها عن مظاهرها.(23).

    ويستطرد الدكتور عفيفي إلى القول: لم تكن تلك الحسناء إذاً سوى واحدة من صور الجمال اللانهائي التي وسعها قلب ابن عربي وأحبها، لا من حيث ذاتها، بل من حيث هي رموز ومجال للذات الإلهية الواحدة المحبوبة على الإطلاق والمعبودة على الإطلاق، لأن المحبوب عنده واحد مهما تعددت مجاليه، والجميل واحد مهما تعددت صوره. والمعبود واحد مهما تعددت أشكاله.(24)

    من الجمال المحسوس إلى الجمال المعقول :

    لقد قال ابن عربي ماقال في الحب الإلهي وعينه مستقرة على الصورة المحسوسة، ولكن قلبه مشغول بصاحب الصورة. تغنى بالجمال المحسوس وقلبه متعلق بالجمال المعقول. وماذا يضير الصوفي لو انتقل من عالم الأرض إلى عالم السماء، واتخذ من المحسوس سلماً يصعد به إلى المعقول؟!(25).

    ويذهب الدكتور عفيفي بعيداً باتجاه منبع الحب الإلهي، فالحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها، إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عُبد شيء من إنسان أو شجر أو كوكب أو صنم، لأن الشيء لا يعبد إلا بعد أن يخلع عليه العابد لباس التقديس، وهو لا يقدسه إلا بعد أن يحبه ويتفانى في حبه، فالمعبود والمحبوب إذاً عين واحدة وإن اختلفت عليها الأوصاف(26).
    بل إن الهوى، في نظر ابن عربي، هو اسم من أسماء الله. هو الحب عينه، بل هو أعظم أسماء الله على الإطلاق.(27).

    عودة إلى شرح الترجمان :

    في العودة إلى شرح ترجمان الأشواق نقول: لم تدرج العادة أن يشرح الشاعر شعره، لكن ابن عربي إذ فعل ذلك ـ للأسباب الآنف ذكرها ـ فإنه جعل لكلماته ومفرداته نكهة خاصة، وأضفى أبعاداً شعرية وإنسانية وصوفية تتصل كما تقدم بنظريته في وحدة الوجود. وفي الواقع فإن إرادته إضفاء البعد الصوفي الإلهي على معانيه وألفاظه، جعل أشعاره مسربلة بثوب ضيق من الغموض، وزادها صعوبة في الفهم، لأنه أحب أن ينتقل من "الظاهر" إلى "الباطن"، من العَرَضْ الدنيوي الزائل إلى الجوهر الأزلي.

    ويشعر القارئ أن كل تفسير إنما هو إضفاء وإضافة ليست من روح النص، وليس ثمة ما يوصل إلى المعاني التي رمى إليها سوى تلك الرموز التي ركَّز عليها في الشرح. وهو يستفيد من هذه المسألة: "الرموز والظاهر والباطن". ليفسر النصوص على هواه. يذكِّرنا هذا بما فعله الدكتور عاطف جودت نصر إذ قسم قصائد "ترجمان الأشواق" إلى ثلاثة أنواع: قصائد تبدو أكثر انسياقاً مع المعنى الغزلي المباشر، وهي قصائد اقتضى تأويلها قدراً من الاعتساف الذي يخرج المعنى عن طبيعته. وقصائد أخرى أكثر انسياقاً مع التأويل الصوفي منها مع الغزل المباشر. وطائفة ثالثة يكاد يتوازن فيها الاتجاهان فهي متسقة مع الغزل المباشر اتسـاقها مع التأويـلات الصوفية على حد ســــواء (28).

    مع "أسقفة من بلاد الروم":

    في ضوء النوع الأول لننظر، في بعض أبيات قصيدة الشيخ الأكبر التي تحمل عنوان "أسقفة من بلاد الروم" لنرى كيف أوَّلها الشاعر، ومافي هذا التأويل من "الاعتساف الذي يخرج المعنى عن طبيعته". يقول ابن عربي:


    ما رحَّلوا يوم بانوا، البزَّل العيسا...إلا وقد حملوا فيها الطواويسا


    وهو يشرح البيت كلمة كلمة كما يلي:

    فيها: بمعنى عليها. البزَّل: الإبل المسمنة. رحَّلوها: جعلوا رحالها عليها. الطواويس: كناية عن أحبته. شبَّههم بهن لحسنهن.

    البزل: يريد الأعمال الباطنة والظاهرة، فإنها التي ترفع الكلم الطيب إلى المستوى الأعلى، كما قال تعالى: "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه"، والطواويس: المحمولة فيه أرواحها، فإنه لا يكون العمل مقبولاً ولا صالحاً ولا حسناً، إلا حتى يكون له روح مزيِّنة عاملة أو همة.وشبهها بالطيور لأنها روحانية. وكنى عنها أيضاً بالطواويس لتنوع اختلافها في الحسن والجمال(29)(!)..


    غزل خالص مباشر :

    ما علاقة هذه المعاني التي فسرها الشيخ محيي الدين بذلك البيت من الشعر الذي لا يدع أي مجال، كي تلعب فيه الخرقة الصوفية، فهو كله غزل خالص مباشر. ومثله البيت التالي:


    من كل فاتكة الألحاظ مالكة ... تخالها فوق عرش الدر بلقيسا


    في الشرح يقول ابن عربي:

    الفتك: القتل في صورة. مالكة: حاكمة. تخالها: تحسبها. العرش: السرير. بلقيس: المذكورة في القرآن في قصة سليمان عليه السلام.

    المقصد يقول: من كل حكمة إلهية حصلت للعبد في خلوته فقتلته عن مشاهدة ذاته وحكمت عليه. فإذا رأيتها حسبتها فوق سرير الدر، يشير إلى ما تجلى لجبريل والنبي عليهما الصلاة والسلام، في رفرف الدر والياقوت عند سماء الدنيا فغشي على جبريل وحده لعلمه بمن تجلى له في ذلك الرفرف الدري(!) وسماها بلقيساً لتولدها بين العلم والعمل، فالعمل كثيف والعلم لطيف، كما كانت بلقيس متولدة بين الإنس والجن، فإن أمها من الإنس وأباها من الجن، ولو كان أبوها من الإنس وأمها من الجن لكانت ولادتها عندهم، وكانت تغلب عليها الروحانية، ولهذا ظهرت بلقيس عندنا(30)(!!).

    ترى ما علاقة هذا التأويل كلّه أيضاً ببيت الشعر الغَزِل اللطيف!


    بين بلقيس وبين سليمان :

    إن بلقيس هذه التي ذكرها في آخر البيت، وبها يضرب المثل بالسلطان والجمال واللباقة وحسن التصرف، حين قررت الذهاب إلى "سليمان"، وأخبرته بذلك، شيّد لها صرحاً عظيماً، ومرد أرضه بالزجاج، فلما جاءت وأرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنت الزجاج ماء، فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ثيابها بالماء. وأُخْبرت أن ما ظنته ماء إنما هو زجاج(31).

    وهذا ما ذكره الشيخ محيي الدين في البيت التالي، وأضاف إليه أطيافاً من بهاء بلقيس ـ وهو يعني النظام بالطبع ـ "شمساً على فلك"، وما عرف عن إدريس من علم وحكمة ـ وهما من صفات النظام أيضاً ـ حتى ذُكر أنه "أول من خط بالقلم"32- وذكر أيضاً أنه جمع العلم والعمل معاً:


    إذا تمشت على صرح الزجاج ترى... شمساً على فلك في حِجْر إدريسا


    إن ابن عربي يقول كلاماً كثيراً في تأويل هذا البيت. وإذ يشير إلى الأحوال الإلهية والصوفية بقوله: "فكأنه ـ وهو يعني نفسه ـ يقول: قوة سلطان هذه الحكمة إذا وردت على قلب متعشق. بما حصل فيه من المعارف أحرقتها وأذهبتها"، فإنه لا يتمكن من متابعة هذا الاتجاه في التأويل، إزاء تلك العبارة:

    "إذا تمشت على صرح الزجاج"، فيقول: "وذكر المشي دون السعي".وغيره لنخوتها وعجبها وانتقالها في حالات هذا القلب من حال إلىحال بضرب من التمكن"(33)…

    ولو أننا تابعنا قراءة الأبيات في هذه القصيدة ـ على سبيل المثال ـ لوقعنا على ما وقعنا عليه، من تأويل متعسف يخرج المعنى عن طبيعته. ولكان علينا أن نصغي إلى ماكتبه الأستاذ يوسف سامي اليوسف عندما أشار إلى مافعله ابن عربي إزاء المتزمتين الذين نعوا عليه أن له شعراً غزلياً حسياً، لا يليق البتة بشيخ يزعم أنه خاتم الأولياء "فماكان من ابن عربي إلا أن أحسن التخلص بأن أقدم على شرح ديوانه شرحاً تأويلياً"، و"مع أن الديوان لا يكتبه إلا عاشق ملتاع، وإلا رجل يعرف التمتع بجمال الجسد الأنثوي، فقد استطاع الشيخ أن يجيء بتأويل (مقنع أو غير مقنع)، من شأنه أن يحشر الديوان في المناخ الصوفي، وأن يجعل منه شكلاً من أشكال التعبير عن التصورات والمفاهيم الصوفية."(34).


    الهوامش :

    1 ـ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ـ تأليف: عبد الحفيظ فرغلي علي القرني ـ دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ القاهرة ـ سبتمبر 1968 ـ ص 76.
    2 ـ المصدر السابق ص 77.
    3 ـ مجلة منبر الإسلام ـ عدد ربيع الأول 1386.
    4 ـ الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي ـ القرني ـ ص 68.
    5 ـ المصدر السابق ص 79-80.
    6 ـ المصدر السابق ص 81.
    7 ـ المصدر نفسه ص88.
    8 ـ المصدر نفسه ص84.
    9 ـ المصدر السابق ـ ص 84.
    10 ـ ترجمان الأشواق ـ وعليه شرحه ـ دار صادر ـ بيروت 1966. ص57-58-59.
    11 ـ محاضرات الأبرار ـ ج2 ـ ص 150.
    12 ـ شرح ترجمان الأشواق ـ دار صادر ـ ص 7.
    13 ـ المصدر السابق ص 8.
    14 ـ المصدر نفسه ص8
    15 ـ المصدر نفسه ص9
    16 ـ المصدر السابق ـ ص 9-10.
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 2:13 am

    فلسفة وحدة الوجود بين ابن عربي واسبينوزا
    الإثنين, 10 يناير 2011 12:11 مساءً

    الكاتب: د/ بدران بن الحسن


    إن دراسة فكرة "وحدة الوجود" بشكل متكامل تحتاج إلى جهود متضافرة ومتعددة تخصص لها، كما تحتاج إلى أن تعالج من زوايا مختلفة، بما أنها من إحدى المقولات الصوفية ذات المرتكزين الاجتماعي الأخلاقي، والمعرفي الفلسفي.


    كما أن مقارنة ما ورد عن هذه الفكرة في دوائر حضارية مختلفة يجعل من الصعوبة بمكان الخروج بموقف موضوعي بعيد عن التلفيق، أو الإسقاط المتعسف، أو التقول ونسبة المتأخر إلى المتقدم، أو محاولة معالجة الظاهرة بنوع من التجزيء والتعميم الذي يقضي على جوهر المسألة.
    ودراسة وحدة الوجود أيضاً، لا تنفك عن دراستها في صلتها بظاهرتي الزهد والتصوف، وبخاصة ظاهرة التصوف التي تعتبر ظاهرة عالمية، لا ترتبط بالدين تماماً بقدر ما ترتبط بالإنسان، أي أنها ليست ظاهرة دينية في جوهرها بقدر ما هي ظاهرة إنسانية، والدليل على ذلك أننا نجد كثيرا من المذاهب الوجودية المعاصرة في الغرب، والحركات الطقوسية، وجماعات العربدة وغيرها لا علاقة لها بالدين السائد في تلك المناطق، بل هي ظاهرة تشبه دائرة الدروشة الصوفية التي انتشرت في عهود انحطاط التصوف الإسلامي.


    وهذا لا يدعونا إلى اختزال أسباب ظاهرة التصوف وما نتج عنها من القول بفكرة وحدة الوجود وغيرها، إلى سبب واحد فقط؛ فهناك العامل التاريخي الاجتماعي المرتبط بالأحداث الاجتماعية وتأثيرها على حركة الفكر داخل المجتمع، كما أن هناك الطابع الأصيل في النشاط الروحي للإنسان وهو بمختلف أشكاله وتجلياته وإرهاصاته، من التعقيد والتشابك بحيث لا يمكن اختزاله في بعد واحد.


    كما ينبغي في دراستنا لتطور حركة التصوف وما يتصل بها من أفكار، أن نميز بين التصوف باعتباره سلوكا، وبين التصوف باعتباره موقفا فلسفيا وفكريا، وهذا الأخير يتحول من انفعال بالوسط الاجتماعي والثقافي السائد إلى مشروع فكري ورؤية فلسفية، تحاول أن تقدم تفسيرا وتوجيها للواقع، وتعمل على تغييره وفق هذه الرؤية، كما أن التصوف في هذه الناحية يركز على الجوانب المعرفية أكثر من الجوانب الاجتماعية، وإن كانا لا ينفكان غالبا.


    غير أن ما يحدث في التصوف عندما يصير موقفا فلسفيا أن هناك تحولاً قد حدث في الترتيب، فبدل أن يكون المتصوف تابعا للتيار العام أو منعزلا عنه، يصير منظراً وموجها وصائغا لمقولات فلسفية عن الكون والتكوين، وعن الله والعالم والعلاقة بينهما، والبحث في طريق آخر لهذه الصلة، ومصدرا آخر للمعرفة غير ما كان يسلكه الزاهد.


    وفي هذا البحث نحاول دراسة فكرة "وحدة الوجود" باعتبارها موقفا فلسفيا، ولكن في صلته بالواقع الاجتماعي، أي ما يترتب عن القول بهذه الفكرة من ثمرات؛ كالالتزام بالأخلاق أو عدمه، والقول بأن هناك مصدرا للمعرفة يتجاوز الحس والعقل معا، والقول بوحدة الأديان والإنسان الكامل، والصيرورة إلى نوع من الجبرية واختلاط المفاهيم... الخ.


    ونخصص هذا البحث لدراسة فكرة "وحدة الوجود" بنوع من المقارنة، بين كل من ابن عربي واسبينوزا. مع ملاحظة أنهما لم يكونا متعاصرين. كما يمكن الملاحظة أيضاً أنه في حين كان ابن عربي يلجأ إلى النصوص الدينية لتفسير مذهبيه، كان اسبينوزا يرتكز إلى العقل والفلسفة العقلانية التي وضع أسسها ديكارت، كما أنه كان يشنع على مقولات العهدين القديم والجديد في ما يتعلق بذات الله، وبالصلة به تعالى.


    1 - وحدة الوجود اصطلاحا:

    إن إعطاء معنى اصطلاحي واحد لوحدة الوجود من الصعوبة بمكان، ذلك أن كل فيلسوف أو متصوف تناول هذه المسألة إلا وله تصور مختلف عن غيره في قليل أو في كثير، ولكن هذا لا ينفي أن يكون لكل التصورات عن وحدة الوجود روابط توحد بينها، ولهذا فإن من أهم ما يجمع بين هذه التصورات المختلفة عن وحدة الوجود، هو اشتراكها في بحث مسائل معينة، هي: الذات الإلهية وصفاتها، والعلاقة بين الحق والخلق، وفيض الله وتجليه وصلته بالعالم، والإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية أو قدم النور المحمدي، والاتحاد بالله، ووحدة الأديان(1).

    وهي من منظور نظرية المعرفة سعي إلى اختزال المسافة بين الذات والموضوع، كما أنها إلغاء للنظر والاستدلال العقلي، واستناد إلى مصدر غير قابل للتحقق من صدق ما يؤدي إليه؛ وذلك هو الإلهام أو العلم اللدني، القائم على التأمل الذاتي والتجربة الخاصة الموصلة إلى المعرفة الحقة - بتعبير الصوفية - التي هي أعلى من كل المعارف الأخرى، سواء ما كان منها عن طريق الحواس، أو كان بحثا عقليا برهانيا.

    أما في اللغات الأوربية (والأنجليزية تخصيصاً) فإن وحدة الوجود يقابلها مصطلح (Pantheism) وتعني الله هو الكل ما هو إلا صياغة للعلاقة بين الله والعالم تؤكد على التطابق بين الله والعالم، ولهذه العلاقة عدة أشكال في الفكر الأوربي(2)، أهمها وحدة الوجود الشاملة (Immanentistic Pantheism) التي تجعل من الله جزء من العالم، وهو بالرغم من حلوله فيه، غير منفصل عنه، بل إن قدرته تتصل بكليته، أي بكل شيء فيه، وهذه التي سنراها عند اسبينوزا كما سيأتي لاحقاً عند الحديث عن مذهبه في وحدة الوجود. أما الشكل الآخر فهو وحدة الوجود النافية للعالم (Acosmic Pantheism) التي ترى أن بنية الحقيقة الكلية للعالم هي الله، والعالم مظهر غير حقيقي في ذاته(3)، وهذه الأخيرة سنجدها عند ابن عربي.


    وسيتضح المفهوم أكثر عند عرضنا بنوع من المقارنة لتصورات كل من ابن عربي واسبينوزا، والمفهوم الذي أعطاه كل واحد منهما لهذه المسألة، وما يتصل بها من نتائج على مستوى العقيدة وعلى مستوى الشريعة والأخلاق والسلوك.


    2 - وحدة الوجود عند ابن عربي:


    الحديث عن وحدة الوجود، حديث عن الألوهية، التي عرض لها كل من المتكلمين والفلاسفة والصوفية. وإذا كان المتكلمون الإسلاميون قد حرصوا على إثبات ثنائية الحق والخلق، أو الله والعالم، فإن هذا المسلك الكلامي في تحديد الصلة بين الربوبية وعالم الخلق، والمبني أساسا على التنزيه عن المحايثة والمماثلة، قد شابه نوع من الغلو أحيانا أدى إلى تصور تجريدي مطلق للألوهية، أدى بدوره إلى ردود فعل عنيفة تبلورت ابتداء في دوائر الصوفية التي حاولت -من جانبها - أن تتخطى هذه المسافة الفارقة بين الحق والخلق، بين اللامتناهي والمتناهي، وتنقل التوحيد من صورته العقلية التجريدية والجدلية إلى مضمون روحي، مهما تباينت صوره وأشكاله، فإنما يهدف إلى إشاعة ضرب من العلاقة والوصل بين الوجودين؛ الإلهي والإنساني، والمطلق والمحدود، وتقريب المسافة بينهما بطريقة أو بأخرى(4).


    وقد عالج المتصوفة مشكلة الألوهية على طريقتهم، وهي لا تخلو من غموض، يلجأون إلى الرمز تارة وإلى الإبهام تارة أخرى(5). واختلفت المحاولات الصوفية التي عالجت هذا الموضوع، وظهرت عدة تطورات منها ما دعا إلى التوحيد الإرادي (الفناء عن عبادة السوى)، ومنها ما دعا إلى التوحيد الشهودي (الفناء عن شهود السوى)، ومنها ما دعا إلى التوحيد الوجودي (الفناء عن وجود السوى)(6)، وهذا الأخير هو الذي عرف بفكرة "وحدة الوجود".


    وفي تاريخ التصوف الإسلامي تقترن فكرة "وحدة الوجود" باسم محي الدين بن عربي، الذي أكسب هذا المصطلح مضموناً جديداً يمكننا أن نرى فيه محاولة جديدة عند المتصوفة الإسلاميين لمعالجة محالية الجمع بين الوحدة المطلقة للذات الإلهية وعدم انفصالها عن العالم(7).
    وفي فلسفة ابن عربي الصوفية تتجلى واضحة نظرياته في وحدة الوجود التي تولدت عنها نظريته في وحدة الأديان، ونظريته في الإنسان الكامل، ضمنها كل مؤلفاته، وبخاصة "فصوص الحكم" و"الفتوحات المكية"(Cool.

    إذ يلخص فلسفته في طبيعة الوجود وصلة العالم (الممكن الوجود) بالله تعالى (الواجب الوجود) في الفصوص، حيث تتجلى الحقيقة الإلهية - كما يرى - في أكمل مظاهرها في الأنبياء عليهم السلام من آدم إلى محمد، فكل نبي تتجلى فيه صفة؛ فالألوهية تتجلى في الفص الآدمي، والسبوحية في الفص النوحي، والحقية في الفص الإسحاقي...

    وهكذا إلى أن يصل إلى صفة الفردية التي تتجلى في الفص المحمدي، وهو في ذلك يوظف التراث الغنوصي والفلسفة الأفلاطونية الفيضية في كيفية فيض الصفات الإلهية على العالم. أما في كتاب "الفتوحات المكية" فإنه يذكر تلقيه "الفصوص" عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا رآه فيها، ودوره لا يعدو تبليغها كاملة دون زيادة أو نقصان(9).


    ينطلق ابن عربي لتأكيد نظريته في وحدة الوجود من الحديث عن صدور العالم التي مزجها بتاريخ آدم، وقرر أنه وقع فيضان الأول الذي عنه وجدت المادة المستعدة لتقبل الصور، ثم أعدها لقبول الحياة الإلهية، والثاني وهو الذي أنتج الوجودات الشخصية بإظهار الكائنات التي أريدت بهذا الإعداد، وعن الفيض الأول نتجت الجواهر المعينة أو الكليات واستعداداتها المحددة لها في العلم الإلهي، وعن الثاني نتج التحقيق الخارجي لهذه الأشياء، ونتائجها المرادة منها(10).


    ويؤكد ابن عربي أن العالم بالنسبة إلى الله كالمرآة التي تنعكس عليها الصور، فالعالم هو المرآة الذي تنعكس عليها الصفات الإلهية، غير أنه يبقى وجودا معطلا ومبهما ما لم يكن هناك المبدأ النوراني اللطيف الذي أتم به الله الوجود، وبه حقق حقيقته، ذلك أن آدم هو العين التي تبصر الحقائق الإلهية المنطبعة في مرآة الوجود، ولذلك يقول أن آدم "للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصر، فلهذا سمي إنسانا، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم. فهو الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي والكلمة الفاصلة الجامعة"(11)، وهذا لا يعطي وجودا منفصلا للعالم أو للإنسان، بل وجوده في حكم العدم، لأنه "ثبت عن المحققين أنه ما في الوجود إلا الله، ونحن وإن كنا موجودين، فإنما وجودنا به... ومن كان وجوده بغيره فهو في حكم العدم"(12)...

    كما أن الله تعالى –كما يرى ابن عربي- لولا ظهوره في أعيان الخلق وتجليه فيهم لما عرفناه، وكأنه يقول بحلول الحق في الخلق ليُعرف، يقول: "ولولا ظهور الحق في أعيان الخلق ما كانت صفاته وأسماؤه، ولما عرفناه، لأننا إنما نعرفه عن طريق هذه الأسماء والصفات المتجلية في الكون، ولكن ثنائية الحق والخلق ثنائية موهومة زائفة لأنها من أحكام العقل والنظر والحس، والعقل لا يقوى على إدراك الوحدة الشاملة ولا يستطيع إلا أن يدرك التعدد والتكثر"(13).


    ويستشعر ابن عربي من أن ما ذهب إليه قد يؤدي إلى وحدة وجود مادية تؤدي إلى حلول الله في الطبيعة أو الواحد في الكثرة، فيضبطه بقوله: "أما وجود الخلق فمجرد ظل لصاحب الظل وصورة المرآة بالنسبة لصاحب المرآة فالخلق شبح"(14)، غير أن هذا يعارضه ما سبق من أقوال، وكذلك يعارضه قوله: "الإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها"(15)، وإذا نظرنا إلى هذا القول الأخير نجد أنه يعود إلى القول بحلول الله في الطبيعة وهو ما يؤكد وحدة الوجود المادية في فلسفته.


    ونظرا لورود أقوال متناقضة ومتضاربة فيما يتعلق بمذهبه في وحدة الوجود فإنه يحاول استدراك ذلك وعزوه إلى تعقد هذا المذهب وغموضه، فيقول في شأن هذا العقيدة المعقدة "فما أفردتها على اليقين لما فيها من الغموض ولكن جئت بها مبددة في أبواب هذا الكتاب مستوفاة مبينة، لكنها كما ذكرنا متفرقة، فمن رزقه الله الفهم فيها يعرف أمرها، ويميزها عن غيرها، فإنها العلم الحق والقول الصدق"(16).


    والواقع أن هذا الغموض الذي في وحدة الوجود عند ابن عربي راجع في تصوري إلى محاولة الجمع بين الغنوصية الأفلوطينية القائلة بصدور الكثرة عن الواحد عن طريق نظرية الفيض بتراتبيتها المعروفة، وبين القول بأن العالم وجود وهمي وأنه لا وجود له خارج الحق بتعبير الصوفية، وبالتالي القول بحلول الكثرة في الواحد، فأراد ابن عربي الجمع بينهما فقال بهذه الأقوال المتناقضة التي فيها ما يوحي بالقول بحلول الواحد في الكثرة، وفيها ما يوحي بالقول بحلول الكثرة في الواحد، وهذا ما يجعل مذهبه في وحدة الوجود مذهبا فريدا مرتبطا بابن عربي أكثر من ارتباطه بأيٍّ من صوفية الإسلام.


    هذا القول بحلول الحق في الخلق وحلول الخلق في الحق، أي أن الناسوت واللاهوت صورتان ووجهان لحقيقة واحدة جعله يقول بأن التنزيه هو عين التشبيه لأنهما أمران اعتباريان، وإلا "فالحق المنزه هو الخلق المشبه"(17) لا فرق بينهما إلا في صفة واحدة فقط هي وجوب الوجود التي ينفرد بها الحق(18). ويصوغ ابن عربي مذهبه في التنزيه والتشبيه بقوله(19):


    مذ تألهت رجعت مظهراً *** وكذا كنت فبي فاعتصمو
    أنا حبل الله في كونكمو *** فالزموا الباب عبيداً واخدمو
    ليس في الجبة غير ما قاله *** الحلاج يوما فانعمو
    عز الإله فما يحويه من أحد *** وبعد هذا فإنا قد وسعناه


    فهو تارة مظهر للإله، وتارة حبل الله في الكون، وتارة يكون الإله مطلقا منزها لا يحويه أحد، وتارة يسعه خلقه، وكما هو ظاهر من الأبيات فإن ابن عربي لا يدين بما قاله الحلاج في نظرية الحلول فحسب، بل يتجاوزه إلى التماهي بين الحق والخلق في وحدة وجودية واحدة لا فرق فيها بين الحق والخلق. وهو في ذلك يتجاوز ما وصل إليه الحلاج أو البسطامي، إذ لم يختزل كل منهما تماماً المسافة بين ثنائية الحق والخلق، كما أن صاحب وحدة الشهود وإن غلا في موقفه، فإن الحق ألهاه عن الخلق، أما ابن عربي فإنه يتجه إلى وحدة بين الحق والخلق، بما أن الحق هو الوجود الحقيقي والموجودات وجود وهمي ووجودها عدم. وفي ذلك يقول أيضاً:


    لما أراد الإله الحق يسكنه *** لذاك عدّ له خلقاً وسوّاه
    فكان عين وجودي عين صورته *** وحي صحيح ولا يدريه إلا هو




    فالوجود حقيقة واحدة، وما الأشكال المختلفة للخلق إلا صور لتجلي الحق، وهي في حقيقتها تجليات للحق الواحد وليس هناك تعدد ولا كثرة في نظره، لأن هذا التعدد وهذه الكثرة من حكم العقل القاصر والحواس القاصرة، والعارف وحده هو الذي يدرك بطريق الذوق وحدتهما(20).
    ولهذا فإن وحدة الوجود كما يصورها ابن عربي "تعطي للإلوهية معنى مجردا غير مشخص، ولا يكاد يوصف، وصفة الإله الوحيدة هي الوجود، وقد تضاف إليها صفة العلم، ولكنه علم مقصور على ذات الله. وهذا معنى لا يتفق مع العقيدة الأشعرية السائدة، ولا يتمشى مع النصوص الدينية التي تثبت لله صفات كالقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام"(21).


    وإذا كان المتكلمون يؤكدون "مخالفة الله للحوادث" فإن ابن عربي يجعل من ثنائية الحق والخلق واحدية لها وجهان؛ الباطن (الحق) والظاهر (الخلق)، وهذان الوجهان لا يؤديان إلى ثنائية الله والعالم، وإنما العالم مرآة تنطبع عليه صفات الله، والعالم ظل لله - برأيه - وليس له وجود مفارق، بل وجوده المفارق وجود وهمي من صنع العقل، و"العقل لا يعطي شيئاً"(22). وتختلط عنه الحقيقة الإلهية بالخلق، فتراه يجعل من العبد ربا ومن الرب عبداً، بل ويتبادلان الأدوار(23):


    فنحن له كما ثبتت *** أدلتنا، ونحن أن
    وليس له سوى كوني *** فنحن له كنحن بن
    فلي وجهان: هو وأنا *** وليس له أنا بأن
    ولكن فيّ مظهره *** فنحن له كمثل أن
    فيحمدني وأحمده *** ويعبدني وأعبده
    في حال أقرّ به *** وفي الأعيان أجحده
    فيعرفني وأنكره ** وأعرفه فأشهده
    فوقتا يكون العبد رباّ بلا شك *** ووقتا يكون العبد عبدا بلا إفك
    فإن كان عبداً كان بالحق واسعاً *** وإن كان رباً كان في عيشة ضنك


    لا ينكر أحد أن هذا الشعر مكون من ألغاز وألفاظ مركبة تركيبا يخالف معهود العرب من سوق الكلام وإعمال المجاز، ومؤداه مذهب خاص في التنزيه والتشبيه يرى فيه أنه "لا يخلو تنزيه عن تشبيه، ولا تشبيه عن تنزيه: قال تعالى ليس كمثله شيء فنزه وشبه، وهو السميع البصير فشبه"(24) وهو يشير إلى قوله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"(25).


    ونعود فنقول أن ما أوردناه من أقوال لابن عربي، والتي في مجموعها تمثل صورة كاملة للقول بوحدة الوجود، فإنه بالقوة نفسها يمكن أن يجد قارئ ابن عربي نصوصا كثيرة تنفي قوله بوحدة الوجود، وهذا ما أدى إلى الاختلاف في الحكم عليه بأنه من أصحاب وحدة الوجود، أو أنه من الملتزمين بالشرع ظاهرا وباطنا وأنه لم يخرج في كل كتاباته عن منهج الحق ومعهود العرب من الكلام.

    وهذا في رأيي يؤكد صحة نسبة الفكرة إليه من جهة، كما يؤكد صحة نسبة الأفكار الأخرى إليه من جهة أخرى أيضاً، ووجود هذه النظريات المتناقضة عنده لا يؤدي إلى نفيها عنه، بقدر ما يجعل منه صاحب مذهب معقد الفهم، متشعب المداخل، متعدد المآلات. وهذا ليس من ميزة أصحاب الأفكار البناءة، ولا ميزة الذين يحملون علم النبوة، فينفون عنه تأويل الجاهلين، وتحريف الغالين، وانتحال المبطلين. وهذا لا يتوفر في فكر ابن عربي، وخاصة إذا نظرنا في مآلات الفكرة التي قال بها على مستوى الأخلاق والسلوك والالتزام بآداب الشرع، وعلى مستوى اضطراب المفاهيم، وإسقاط المسؤولية، بل والوقوع في الجبرية.


    فابن عربي يرى "أن العالم الذي هو تجلي الحق الدائم أزلي كما هو أبدي... وأن النهاية في العالم غير حاصلة، والغاية من العالم غير حاصلة، فلا تزال الآخرة دائمة التكوين عن العالم. وليس دوام تكون الآخرة عن العالم إلا أنها اسم لفناء صور الموجودات عندما تفنى، كما أن العالم اسم لبقاء صورها عندما تبقى"(26).


    فهل معنى هذا أن العالم قديم غير حادث، أم أن الموت ما هو إلا تحول للنفس من طور إلى طور؟ كما يقول هو نفسه "فإذا أخذه إليه سوى له مركبا غير هذا المركب من جنس الدار التي ينتقل إليها وهي دار البقاء"، فهل هذا تناسخ، أم ماذا؟، في الحقيقة إن كلامه هنا يحتمل أكثر من وجه، ولا يمكن أن نقرأ من قوله هذا أنه يقول بقدم العالم كما ذهب إلى ذلك أحد الباحثين(27)، غير أن ما يؤدي إلى الشك في مقصده وترتيب القول بقدم العالم عليه، أنه في أحد أقواله التي أوردناها سابقاً يصرح بأن العالم وجد مع الله وأن الله كان وجوداً مبهما حتى خلق الخلق.


    لكن الأخطر في نتائج نظرية وحدة الوجود عند ابن عربي هي ما أدت إليه من ضرب المفاهيم في بعضها، وإفراغها من محتواها الشرعي، فالعذاب لم يعد عذاباً بل صار عذوبة، فإن الله - كما يرى ابن عربي - لما اتخذه مظهراً له وصورة لإحدى تجلياته وفيوضاته، فهو الذي يفعل ما ظن أنه من فعل ابن عربي، فلا مسؤولية.

    فإذا كان الرب يصير عبداً أحياناً، وأحياناً أخرى يصير العبد رباً، فلا مسؤولية، بل إن العبادة نفسها تصير بغير معنى، كما أن الجنة والنار يصيران متساويين، بل هما وجهان لحقيقة واحدة، فإن المعذبين يتلذذون بالعذاب لأنه "يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صائن"(28).
    كما أن الكافر ليس هو الجاحد لوجود الله سبحانه، وإنما هو مأخوذ من الكفر، بمعنى الستر والتغطية، فهو قد ستر ما وقف عليه من العلم الاتصالي الشهودي، ذلك الذي أراه الوجود على ما هو عليه، ووقف به على سر القدر(29)، وبهذا فقوم نوح، كانوا في تكذيبهم له على حق، لأنه دعاهم بلسان الظاهر، ولم يفطن إلى ما هم عليه من حقيقة الباطن وما يرونه من حقيقة الكشف، وأن ذلك هو ما أراد الله منهم بناء على ما أعطته أعيانهم الثابتة في الأزل(30).


    أما فيما يتعلق بالعلاقة بين النبوة والولاية، فإن ابن عربي يوغل في ضرب المفاهيم المستقرة في العرف الشرعي، حيث يجعل من الولي في مكانة الرسول إن لم يعلوه، فإن الرسول محجوب غير سعيد لأنه لم يتحقق بالوحدة الكاملة، والوحدة الكاملة تكون من غير واسطة، وهذا مذهب في المعرفة يسقط النبوة من الاعتبار ويقلل من أهميتها، ذلك "أن كلام الله ينزل على قلوب أوليائه تلاوة، فينظر الولي ما تلى عليه مثل ما ينظر النبي فيما أنزل عليه، فعلم ما أريد به في تلك التلاوة كما يعلم النبي ما أنزل عليه فيحكم بحسب ما يقتضيه الأمر"(31). ومعلوم ما بين التلاوة والتنزيل من فرق درجة.


    والقول بالولاية يقلل من النبوة ويطعن في ختمها، فإنه يجعل من النبوة غير ذات أهمية لتساويها مع الولاية، بل إن الولاية أرفع منها، حيث أنها صلة بلا واسطة، بينما النبوة صلة بواسطة، وما كان بغير واسطة فهو موصول، وما كان بواسطة فهو محجوب. كذلك فإن القول بالولاية يطعن في ختم النبوة ذاته، ويجعل منها مستمرة استمرار وجود الأولياء.


    وهناك أمر آخر يترتب على القول بوحدة الوجود، وهو الدعوة إلى وحدة الأديان، وليس الأمر متعلق بحوار بين الأديان لمعرفة دين الحق منها من دين الضلالة، حيث أن وحدة الأديان ترى أن الأديان كلها في الحقيقة صور مختلفة لتجلي الحق الواحد، فلا مكان لإنكار عقائد الكفار والمشركين، بل ليس هناك كافر ومشرك وهناك موحد، ففي الجوهر كلهم موحدون، ولهذا لا ينبغي أن يرتبط الإنسان بمعبود خاص في الظاهر، فالعبرة بالباطن، "لأن صاحب المعبود الخاص جاهل بلا شك لاعتراضه على غيره فيما اعتقد... أما الإله المطلق فهو الذي لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء"(32)، ولهذا يشنع ابن عربي على من يحد نفسه بمعتقد خاص في الله، ويرى أن ذلك من اصطناع أصحاب الأديان، والأصل أن "دين الحب" لا يعرف الحدود، ولهذا فإنه كما قال(33):


    عقد الخلائق في الإله عقائداً *** وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه


    بل إنه يصحح كل العقائد الأخرى، وكما يقول(34):


    لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
    وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن


    ويحتج ابن عربي لهذه العقيدة، بأن الجاهل هو الذي قيد نفسه بعقيدة مخصوصة فحجب نفسه عن صور تجليات الحق في الأديان الأخرى، بينما العارف هو من تحقق بالوحدة في الوحدة، ونظر الوحدة في الكثرة فوضع الألوهية أو وضع معنى الحق في مكانه، أي في الواحد المعبود في صور جميع الآلهة المعبودين، والجاهل هو الذي وضع الألوهية وقيدها في صورة خاصة حجراً كانت أو شجرة أو حيوانا أو إنساناً(35).


    ويصل ابن عربي إلى تعطيل العبادات والشعائر، فيرى أن أرقى درجات العبادة هي التحقق بالوحدة الذاتية، وهذا مقام العارف. فالمعرفة هي التي تفاضل بين الناس وليس العبادة والالتزام بالشعائر، فإن ذلك ارتباط بالرسوم، وتقييد للعبادة الحقة في رسوم ظاهرة. وكأن هذا يقصد منه أن المعرفة هي أرقى درجات العبادة بل هي العبادة، وفي الحقيقة فإن هذا الموقف هو النتيجة التي سنجدها عند اسبينوزا أيضاً، عندما يصل إلى اعتبار المعرفة بالله أرقى درجات العبادة. لأنك حينها "تتجاوز الصور إلى التحقق بأنك أنت هو، وهو أنت... أنت هو من حيث صورتك... وهو أنت بالعين والجوهر، فإنه هو الذي يفيض عليك الوجود من وجوده"(36). لأن كل صورة من الصور ناطقة بألوهية الحق مسبحة بحمده، وكل معبود من المعبودات وجه من وجوهه(37).


    هذه في نظري هي الصورة العامة لفكرة وحدة الوجود؛ فهي موقف فلسفي، واتجاه في المعرفة يقصرها على التأمل والقول بالعلم اللدني، ومحاولة لتجاوز الإشكال الموهوم الذي أوقع فيه نفسه من خلال محاولة ربط المطلق بالمقيد، والتحقق بالمعرفة الحقة، وما يترتب عن هذا التصور من نتائج تؤدي إلى نقض الشرع المنزل ذاته، والحط من قدر صاحب الشرع بحجة أنه محجوب، بل والوصول إلى تصحيح كل العقائد وصور الشرك، وما ذلك إلا التزام بالقول بأن كل الوجود هو تجل لصفات الله تعالى، وصور الوجود كلها تجليات ووجوه للحق، ولهذا فالقول بوحدة الأديان نتيجة منطقية لالتزام ابن عربي بمقولات فكرته، والتزام بما تؤدي إليه "عقيدة الحب" من اتباع الهوى.


    3 - وحدة الوجود عند اسبينوزا:


    ولد باروخ اسبينوزا في أمستردام سنة 1632 م وتوفي بها سنة 1677 م وهو في الخامسة والأربعين من عمره، وقد ولد من أسرة يهودية هاجرت إلى هولندة من إسبانيا فراراً مما كان اليهود يلقونه فيها من اضطهاد على يد الكاثوليك بعد سقوط الحكم الإسلامي فيها. ذلك الحكم الذي كان يوفر لهم الحماية والأمان، فلما سقطت غرناطة في 1492 م تعرض اليهود لما تعرض له المسلمون على يد محاكم التفتيش الرهيبة، فهاجرت أسرة اسبينوزا فرارا من الاضطهاد.

    وما يهمنا في هذا المقام هو يهوديته، إذ أنه لم يكن يؤمن بالتثليث النصراني، كما أنه رفض كثيرا من تحريفات اليهود للتوراة، واعتبر التوراة الحالية تأليفا إنسانيا وليست وحيا، ولهذا اتهم بالخروج على العقيدة اليهودية وحكم عليه بالطرد، فكان يعاني من النفي المزدوج؛ النفي من قبل المسيحيين الذين يرونه يهوديا، والنفي أو الطرد من قبل اليهود باتهامهم له بالهرطقة. والأمر الثابت تاريخيا، أن سبب طرده والنفي المزدوج الذي تعرض له أنه أول من دشن النقد الباطني لنصوص العهد القديم، وانتهى إلى رفض معظم التوراة والعهد القديم بحجة أنها لا تصمد أمام المنهج الذي قام بتوظيفه في نقد نصوصهما، كما أنه رفض ادعاءات العهد الجديد (الإنجيل) في المسيح، وصرح اسبينوزا بأن عيسى لا يعدو أن يكون إنسانا كسائر الناس(38).


    وترجع فلسفة اسبينوزا إلى روافد عديدة بالإضافة إلى الروافد اليهودية النابعة من الثقافة اليهودية والفلاسفة اليهود في العصر الوسيط، وخصوصا موسى بن ميمون وابن جبرول، وهؤلاء بدورهم أخذوا وتأثروا بالفلاسفة الإسلاميين الذين جمعوا في تصوراتهم للخلق والكون والله بين الإسلام والأفلاطونية المحدثة والفلسفة المشائية(39).

    كما أن اسبينوزا كان ديكارتيا في فلسفته، غير أنه كان ناقدا أيضا لفلسفة ديكارت، وذلك في كتابه (مبادئ فلسفة ديكارت) الذي نشره سنة 1663 م. فقد خالف ديكارت في مبدأ الانطلاق، فإذا كان ديكارت يبدأ من الفكر، فإن اسبينوزا يبدأ من "الله" ثم تنزل فلسفته إلى سائر الموجودات، وهو من جهة أخرى يوافق ديكارت، بل يعد ديكارتيا من خلال مبادئ فلسفته التي في أساسها تقوم على الهندسة ومبادئ الميكانيكا(40). ويوظف اسبينوزا أيضاً الطريقة الهندسية (More Geometrico) في عرض أفكاره، إذ يبدأ بالتعريف، ثم يذكر النظرية، ثم يتلوها بالبرهان عليها، ويستعمل التعبيرات المستخدمة في علم الهندسة والرياضيات لعرض مذهبه الفلسفي(41).


    وما يهمنا في هذا المقام من مذهبه الفلسفي هو رأيه في الصلة بين الله والطبيعة، وقوانين العالم، وتفسيره لرأيه في الخلق، وفي الوجود، والتي فيها عناصر من فكرة وحدة الوجود التي رأيناها عند ابن عربي، وفيما يتعلق بنظريته في وحدة الوجود فإننا نستطيع أن نعقد صلة بين آراء ابن عربي واسبينوزا من هذه الناحية(42).

    حيث أن اسبينوزا له آراؤه الفلسفية التي تعالج العلاقة بين الله وبين العالم، أو الله والطبيعة (God and Nature). وينطلق اسبينوزا من ثلاثة اصطلاحات محورية هي: الجوهر، والصفة، والعرض(43)، فالله هو الجوهر، أي موجود بذاته، وهو واجب الوجود بذاته ولا يحتاج إلى شيء آخر. أما الصفة فهي التي عن طريقها يدرك العقل الجوهر، لأن الصفة تحدد طبيعة الجوهر، وأما العرض فعن طريقه يمكن إدراك مشاعر وعواطف الجوهر، أو بعبارة أخرى فهو ما يكون في الشيء ويمكن إدراكه من خلاله(44).


    كما أن اسبينوزا يؤكد أنه لا يوجد جوهر آخر سوى الله، لأنه حاز كل الصفات المطلقة الأزلية، كما أنه وحده موجود ضرورة، وهذا يعني أن أي جوهر بجانب الله فإنه يحوز على بعض صفات الله، وهذا يؤدي إلى وجود جوهرين يحوزان على نفس الصفات، وهذا يستحيل، ولهذا لا يمكن أن يوجد جوهر سوى الله. ومنه نستنتج بوضوح؛ أولاً أن الله واحد، كما أنه في الطبيعة لا يوجد إلا جوهر واحد، وهو مطلق وأزلي، وثانياً ندرك الامتداد والفكر إما صفات لله أو أعراض لصفاته(45).


    ويرفض اسبينوزا الذين يتصورن الله مجسدا له طول وعرض وشكل، ويرفض هذه المحايثة، فالذات المقدسة ترفض هذا التجسيم، فإن في التجسيم تحديد، وبهذا التحديد يكون الله قابلا للتجسد والحيثية، وهذا يخالف صفاته المطلقة الأزلية، ويجعله حادثا، غير أن البرهان يثبت أن الجوهر مطلق غير مخلوق، بل إن الامتداد أحد صفات الجوهر الذي هو الله(46).


    وينتقل اسبينوزا إلى البرهان على أن من ضرورة الطبيعة الإلهية تصدر أعداد لا متناهية من الأشياء بطرق لا متناهية، وهذا يعني أن الله (الجوهر) له صفات لا متناهية، كل واحدة منها تعبر عن ماهية ممتدة غير متناهية(47)، كما أن الله الذي تصدر منه كل الموجودات اللامتناهية هو السبب الأول لها وهو العلة الأولى لكل شيء(48). إضافة إلى أن هذا الجوهر اللامتناهي الإلهي، لا يقبل القسمة، وهو واحد، أزلي أبدي. والوجود والماهية في الله أمر واحد(49).


    إذن، فإن الله - هذا الجوهر اللامتناهي - له صفتان يمكن إدراكهما، هما: الامتداد والفكر، أما سائر الصفات الإلهية فلا نستطيع أن نقول عنها شيئا لأننا لا نستطيع أن نعرفها حسب قوله. فاسبينوزا ينعت الله بأنه امتداد وفكر معا، إنه نظام ممتد مكاني من الموضوعات الفيزيائية بقدر ما هو نظام لا مادي ولا ممتد من الفكر، وكأنه يريد أن يقول بأن الله لا يمكن تحديده، أو بعبارة أوضح؛ لا يمكن تشخيصه مثلما هو حال الأديان السماوية التي ترى فيه إلها مشخصا، بل هو روح العالم. فهو الطبيعة ذاتها، ولكنه ليس الطبيعة المطبوعة وإنما هو الطابعة(50).


    وفي حديثه عن علاقة الكون بالله فإن اسبينوزا يرى أن وجود الكون ضرورة منطقية، فوجود الكون وطبيعته ناتجان عن طبيعة الله، كما أن وجود الدائرة وتساوي أنصاف أقطارها ناتجان عن طبيعة الدائرة(51).


    ويمكن أيضاً أن نلحظ شبها كبيرا بين فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي وفكرة وحدة الوجود عند سبينوزا في هذه المسألة؛ فهما يقرران معا أن الله والعالم شيء واحد، ويقولان بألوهية شاملة تستوعب الكون بأسره. وهذا العالم خاضع لقانون الوجود العام كما قال ابن عربي، أو لضرورة الطبيعة الإلهية كما قال اسبينوزا(52).


    والحقيقة التي تبدو مما ورد عند اسبينوزا أنه وإن كان لدى ابن عربي كثيرا مما يذكرنا باسبينوزا كما يرى نيكولسن(53)، فإن هناك اختلاف بين الرجلين في المنطلق، والمسلك، وحتى في تصور وحدة الوجود، وإن كان هناك بينهما تشابه واشتراك في التصور العام للفكرة.
    فاسبينوزا لا ينطلق من مرتكز صوفي بقدر ما ينطلق من فلسفة عقلية ذات عمق ديكارتي، يمجد الفكرة ويجعل لها المقام الأعلى في الاعتبار، حتى لا يعدو في الوجود سوى الفكر مرتكزا، ولذلك فإن المعرفة التي توصل إلى الله هي معرفة عقلية وإن كانت تلتقي مع تصوف ابن عربي في القول بأن معرفة الله هي أرقى مقامات العبادة بل أن العبادة معرفة.


    4 - خاتمة:

    من خلال ما أوردناه من تحليل لتصورات وحدة الوجود عند كل من ابن عربي واسبينوزا فإننا نقول أن هذه التصورات تجعل من وحدة الوجود فكرة تكاد تلغي الكون، ولا تفسر التغير، ولا تحل مشكلة الواحد والمتعدد- وصعابها الدينية لا تقل عن صعابها الفلسفية، فهي تقول بإله مطلق مجرد لا نهائي، في غنى عن البرهنة عليه وإثبات وجوده، ولكن أين الإنسان؟ وأين مسؤولياته وواجباته؟ إن في القول بوحدة الوجود ما يقضي على الأخلاق والتكاليف(54).


    كما أن في القول بوحدة الوجود خطر تعطيل العمل والتدبر، وتهديد لمناشط الحياة بأن تفرغ من محتواها، حتى أن النظر العقلي يصير ترفا، لأنه حسب صاحب القول بوحدة الوجود، فإن العقل محجوب. ويتفق كلا منهما على أن أرقى مراتب العبادة، بل إن المرتبة الحقة هي مرتبة المعرفة. فالسعادة لا تكمن في التحقق بأمر الله وترجمته في خضوع للشرع، وأداء للشعائر، بل إن كل ذلك من عمل المقطوعين، أما الواصلون فشأنهم الالتذاذ بالمعرفة، فبقدر معرفة العبد بالله بقدر ما يكون أرقى، ويتمتع بالوصل، ويدين بالحب العقلي لله كما قال اسبينوزا، أو الديانة بدين "الحب" كما قال ابن عربي.


    كما أن من أخطر ما تؤدي إليه هذه الرؤية - رؤية وحدة الوجود - هو اضطراب المفاهيم، ونسبيتها، وعدم وجود معيار موضوعي للاحتكام إليه، إذ يصير الأمر إلى التذوق، والذاتية، وإلى نظرة جوانية غير مبرهن على صحتها، بل من الصعب تعميمها أو البناء عليها. والله أعلم.

    ==============

    الهوامش:


    1 - نضلة أحمد نائل الجبوري: فلسفة وحدة الوجود، أصولها وفترتها الإسلامية، ط. 1، البحرين 1409 هـ، ص 31.
    2 - المصدر نفسه، ص 18- 19.
    3 - نفسه.
    4 - عرفان عبد الحميد فتاح: نشأة الفلسفة الصوفية وتطورها، ط. 1، دار الجيل، بيروت 1413 هـ - 1993 م، ص 175 - 179.
    5 - إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية، سميركو للطباعة والنشر، ج 2، ص 71.
    6 - عرفان عبد الحميد فتاح: المصدر السابق، ص 179 - 185.
    7 - حسين مروة: النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ط. 5، دار الفارابي، بيروت 1985، ج 2، ص 271.
    8 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، دار الفكر العربي، ص 494 - 495.
    9 - ذكر ابن عربي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان في دمشق وأعطاه كتاب الفصوص وقال له أخرج به على الناس، فقام بتبليغه، ولم يقم بصياغته هو بزعمه. انظر، الفتوحات المكية، ج 1، ص 373.
    10 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 498.
    11 - ابن عربي: فصوص الحكم، فص حكمة إلهية في كلمة آدمية، ص 48 - 49.
    12 - المصدر نفسه، ص 50.
    13 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 263.
    14 - المصدر نفسه، ج 1، ص 119 - 120.
    15 - ابن عربي: فصوص الحكم، فص حكمة فردية في كلمة محمدية.
    16 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 47 - 48.
    17 - المصدر نفسه، ج 1، ص 119 - 120.
    18 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 502.
    19 - ابن عربي: الفتوحات، ج 2، ص 320 - 321.
    20 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 503 - 504.
    21 - إبراهيم مدكور: في الفلسفة الإسلامية، ج 2، ص 73.
    22 - ابن عربي: فصوص الحكم، ص 125.
    23 - المصدر نفسه، ص 83 - 90.
    24 - المصدر نفسه، ص 182.
    25 - سورة الشورى، الآية 42.
    26 - ابن عربي: الفتوحات، ج 1، ص 338.
    27 - عبد القادر محمود: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص 511.
    28 - ابن عربي: الفصوص، ص 170 - 174.
    29 - إبراهيم هلال: التصوف الإسلامي بين الدين والفلسفة، دار النهضة العربية، القاهرة 1979، ص 179 - 180.
    30 - ابن عربي: الفصوص، ص 82 وما بعدها.
    31 - المصدر نفسه، ص 62 - 64، والفتوحات، ج 2، ص 298 وما بعدها.
    32 - ابن عربي: الفصوص، ص 255.
    33 - المصدر نفسه، ص 191 وما بعدها.
    34 - نفسه، والفتوحات، ج 3، ص 21.
    35 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 520.
    36 - ابن عربي: الفصوص، ص 191 وما بعدها.
    37 - عبد القادر محمود: المصدر السابق، ص 520.
    38 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 144.
    39 - المصدر نفسه، ص 138.
    40 - Yirmiyahu Yovel: God and Nature in Spinoza’s Metaphysics, E. J. Brill, Leiden 1991, p. 3.
    41 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 138.
    42 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 73.
    43 - Great Books of the Western World, Editor in Chief: Philip W. Goetz, Encyclopedia Britannica, Inc, Chicago, V28, p. 589.
    44 - Ibid., p. 589.
    45 - Ibid., p. 593 - 594.
    46 - Ibid., p. 594.
    47 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 139.
    48 - Great Books, V 28, p. 596.
    49 - موسوعة الفلسفة، ج 1، ص 139.
    50 - نفسه.
    51 - Great Books, V 28, p. 594.
    52 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 74.
    53 - Nicholson: Legacy of Islam, London 1949, p. 226.
    54 - إبراهيم مدكور: المصدر السابق، ج 2، ص 74 - 75.
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 2:24 am

    وحدة الوجود عند ابن عربي بين الفكر والشعر - د. عصام قصبجي (*)

    اختصم الباحثون ولا يزالون يختصمون حول مذهب وحدة الوجود في التصوف الإسلامي: مصدره، وحقيقته، ومطابقته للفكر الإسلامي؛ إذ ليس ثمة قول فصل يستطيع المرء أن يركن إليه، ولا يمكن أن يكون إلا إذا أمكن أن يكون ثمة قول فصل في الشعر، وما ذلك إلا لأن التصوف شعر الفلسفة، ووحدة الوجود شعر التصوف؛ فالتعبير الصوفي تعبير مجازي عن الحقيقة، والمجاز خيال ينم على الحقيقة، ولكنه ليس الحقيقة، وإذا سلمنا بأن التصوف مثواه القلب، وطابعه الوجد، فليس لنا أن "نبحث" في الوجد، وإنما لنا أن نشعر به. وقد طالما حار الباحثون كلما أرادوا معرفة المذهب الفكري لشاعر من الشعراء، كما حاروا في مذهب الخيام أو المعري يثبتون اليوم ما ينفونه في الغد، أو ينفون في الغد ما أثبتوه في الأمس؛ وذلك أنهم يتابعون متابعة عقلية ثابتة شعوراً قلبياً متحركاً، ويمكن القول بلغة الفلسفة: إنهم يحولون الزمان إلى مكان، والصيرورة إلى ثبات، والحياة إلى موت، والشعور إلى فكر، وكان "شبنغلر" الفيلسوف الألماني قال: إن ثمة فرقاً بين "متى" و"كيف"، وإن قولنا "متى أبرقت السماء "يختلف عن قولنا": كيف أبرقت"؛ لأن متى تتصل بالصيرورة الحية المرتبطة بالزمان، أما كيف "فهي تحويل الزمان الحي إلى مكان ميت أو "علة" باردة، والمكان أضعف من الزمان دائماً، لأن الزمان يكتسب قوته من أنه لا يُرد ولا يمكن تحديد اتجاهه، بينما يمكن أن يحاط بالمكان ويعرف ويحدد؛ ومن ثم ما فتئ المكان يروم تحويل الزمان إلى طبيعته بسلبه سر قوته، وكشف نقاب الغموض عنه، وجعله نمطاً مألوفاً قائماً على العلة والمعلول، وهيهات.(i)

    ويكفي أن نشير- دون أن نستفيض في تحليل الصراع بين متى وكيف- إلى أن الشعر ينتمي إلى الزمان بطبيعته، بينما ينتمي الفكر إلى المكان، ولا يفتأ الفكر يحاول "فهم" الشعر" دون أن يتأتى له ذلك، ويخيل إلي أن تلك هي - في الأصل- قضية التصوف الأولى في الفكر الفلسفي، وقضية وحدة الوجود الأولى في الفكر الصوفي؛ فالشعر وجد وخيال، والفكر منطق ومادة، ومن الممكن أن يتناقض الشاعر فلا يُنكر ذلك عليه، بينما ينكر على المفكر أي تناقض، وإذا نظرنا إلى وحدة الوجود في نشأتها الأولى ألفينا أنها كانت شعوراً أو حدساً يومض في القلب، شعوراً رافق فجر الإنسانية التي نظرت ذاهلة إلى مظاهر الوجود الواحد، ولعلنا نلمح ومضات هذا الشعور الأولى في التصوف الهندي الذي جاء فيه: "أما عند التحقيق فجميع الأشياء إلهية؛ لأن "بشن" جعل نفسه أرضاً ليستقر الحيوان عليها، وجعله ماء ليغذيهم، وجعله ناراً وريحاً لينميهم وينشئهم، وجعله قلباً لكل واحد منهم… وتطورت هذه الفكرة في " براهمان" الأزلي الأبدي الذي يمكن أن يكون صغيراً كحبة الأرز أو كالصورة التي ترتسم في إنسان العين، ولكنه هو نفسه الذي يغمر العالم، وهو أعظم من الزمان، والهواء، والسماء".(ii)

    ولنلاحظ التعبير الشعري المجازي الذي تردد فيما بعد عند ابن عربي وهو يتكلم على الإنسان: "وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر، وهو المعبر عنه بالبصر، فلهذا سمي إنساناً؛ فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم، فهو الإنسان الحادث الأزلي، والنشيء الدائم الأبدي، والكلمة الفاصلة الجامعة"(iii).

    ومن الحق أن جعل الإنسان إنسان عين الله – سبحانه - صورة شعرية جميلة، بيد أنها لا يمكن أن تكون فكراً أبداً، وإذا مضينا الآن نفصل القول في وحدة الوجود وجدنا أن الأصل فيها الانتقال من القول برؤية الله في كل شيء إلى القول بأن كل شيء هو الله، والقول الأول شعر نابع من الحب والشوق، أما الثاني فهو فكر صادر عن الفلسفة، وإذا كنا نقبل الشعر إيقاعاً عذباً عبر عنه "ابن الفارض" تلميذ ابن عربي، فمن العسير أن نقبل الفكر وما ينطوي عليه من تعقيد. يقول ابن الفارض:(iv)

    تراه إن غاب عني كل جارحة *** في كل معنى لطيف رائقٍ بهجِ

    في نغمة العود والناي الرخيم إذا *** تألّفا بين ألحانٍ من الهزج

    وفي مسارح غزلان الخمائل في *** برد الأصائل والإصباح في البلج

    وفي مساقط أنداء الغمامِ على *** بساط نَور من الأزهار منتسج

    وفي مساحب أذيال النسيم إذا *** أهدى لي سُحَيْراً أطيب الأرج

    وفي التثامي ثغرَ الكأس مرتشفاً *** ريقَ المُدامة في مستنزهٍ فرجِ

    لم أدرِ ما غربةُ الأوطان وهو معي *** وخاطري أين كنا غير منزعجِ

    فالدار داري وحِبي حاضرٌ ومتى *** بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي

    ولنقارن هذه الصور الجميلة الفاتنة التي تتوالى كنبضات القلب بهذه الطلاسم المعقدة التي تثقل كاهل العقل والتي يرددها ابن عربي حيناً بعد حين: "سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها"(v)، "الإله المطلق لا يسعه شيء، لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها"(vi) ما في الوجود مثل، ما في الوجود ضد، فإن الوجود حقيقة واحدة، والشيء لا يضاد نفسه"(vii) وإذا أضفنا إلى ذلك: التعينات، والبرازح، والحضرة العمائية، والحقائق الحبية، والتنزلات الاسمية، وإذا تذكرنا أن الحق "تجلى بالحب لنفسه في نفسه، فكان من تجليه آدم، وكان الحب"(viii) وأن "الخلق ليس في الواقع غير نتيجة حب لله مزدوج"(ix) أدركنا الفرق بين ومضة القلب وعناء الفكر".

    على أن نبرات الهيام الصوفي العذب بالوجود الواحد ربما تعالت على نحو أوضح في الشعر الصوفي الفارسي الذي خلصت صوره إلى التغني بالعشق الإلهي تغنياً تغيب فيه الاثنينية، ولا تظهر إلا الوحدة؛ حتى إذا أردت تحويل نبضات الزمان الحي في هذه الصور إلى مذهب فكري ألفيتَ الأمر عصياً على القبول، لأن الشاعر نفسه آنئذ ينكر أن يكون ما "أحس" به هو ما "فكر" فيه، وها هوذا جلال الدين الرومي شاعر الصوفية الأكبر يصرخ في سورة من سورات الوجد طالباً من الله –سبحانه- أن يطل عليه من الشرفة لأن في خده الجميل أمارة من الإقبال، وها هوذا يجلس في الإيوان مع الله من دون أنا وأنت، ومع ذلك فليس من اليسير القول إن جلال الدين من أصحاب الوحدة،، لأنه يفصح عن خلاف ذلك في المثنوي، ولأن الخيال المحلق الذي يرى الجمال الإلهي متجلياً على شرفة الوجود، أو يجالس الله في الإيوان، ليس له أن يتحول إلى فكر وفلسفة، ولم يكن الفن أبداً عقيدة أو مذهباً.

    يقول جلال الدين الرومي:

    "هذه الدار التي لا تفتر فيها الألحان، سل ربها أي دار هذه!؟

    إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه؟ وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي؟

    أيها السيد! أطل علينا من الشرفة، فإن في خدك الجميل أمارةً من الإقبال.

    أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك، ولو كان ملك العالم، خيال وخرافة

    تحير البستان أي ورق وأي زهر! وولهت الطير أي شبك وأي حب

    هذا سيد الفلك كالزهرة والقمر، وهذي دار العشق لا حد لها ولا نهاية"(x)

    ويقول:

    "ما أسعد تلك اللحظة حين نجلس في الإيوان أنا وأنت!

    نبدو نقشين وصورتين ولكننا روح واحدة أنا وأنت.

    إن لون البستان وشدو الطيور يهبنا ماء الحياة

    في تلك اللحظة التي نذهب فيها إلى البستان أنا وأنت

    أنا وأنت بدون أنا وأنت نبلغ بالذوق غاية الاتحاد.

    فنسعد ونستريح من خرافات الفرقة إلي أنا وأنت

    وسيأكل الحسد قلوب طيور الفلك، ذات الألوان الباهرة

    حينما تشاهدنا نضحك جذلين على تلك الصورة أنا وأنت"(xi)

    ولا أظن أن أحدّاً يجادل في سمو هذا الوجد المحرق، بيد أن كثيرين يجادلون في دلالتها. ولا بأس من أن نرجع أيضاً إلى لوعة "جامي" وهو يفصح عن "المشاعر "عينها التي أفصح عنها الرومي دون أن يعني ذلك أنه من أصحاب وحدة الوجود:

    "حذار أن تقول: "هو الجميل ونحن عشاقه" فلست إلا المرآة التي تنعكس عليها صورته ويرى فيها وجهه، هو وحده الظاهر وأنت الباطن.

    والحب المحض- كالجمال المحض- ليس إلا منه يتجلى لك فيك، فإذا لم تستطع أن تنظر إلى المرآة، فاعلم أنه هو المرآة أيضاً، هو الكنز وهو الخزانة، أما أنا وأنت فلا محل لهما هنالك، تلك أوهام خادعة لاحظ لها من الوجود"(xii).

    وجامي يوضح أن ما في الوجود صور ذات تهاويل بديعة:

    "عندما تنفس صبح الأزل عن العشق، نفث العشق نار الشوق في القلم، فاجرى على لوح العدم صوراً جمة ذات تهاويل بديعة"(xiii)

    وهكذا يلوح أن الوجود نفسه صور شعرية رسمها قلم العشق دون أن يكون لها أن تحاط بكيف.

    فإذا عدنا الآن إلى ابن عربي قلنا بإيجاز: إن ابن عربي شاعر لا يمكن أن تؤخذ أقواله إلا على أنها شعر نظمه الخيال، وأبدعته الرؤى، وليس ذلك لأنه نظم الشعر في الديوان أو في ترجمان الأشواق، وإنما لأنه "نظم" الفصوص والفتوحات، بل لعله لم يكن شاعراً مبدعاً في ديوانه أو في ترجمانه بقدر ما كان مبدعاً في فصوصه وفتوحاته الفياضة بالأخيلة والرؤى منذ أن تلقى الفصوص كاملاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كتب في الفتوحات ما أملاه عليه الله، إذ ليس في وسع المرء أن يقبل ذلك إلا على أنه رؤيا شاعر فاض به الوجد، واستبد به العشق.

    ويبدو أن "الرؤى" هي سرّ ابن عربي، إذ صاحبته في مطلع شبابه، وكانت بداية نزوعه الصوفي رؤيا ظهرت له فيها تهاويل عذاب جهنم أثناء مرض ألم به: "مرضت فغشي عليّ في مرضي بحيث اني كنت معدوداً في الموتى، فرأيت قوماً كريهي المنظر يريدون إذابتي"(xiv) ثم تعلم ابن عربي الاتصال بأرواح الموتى من شيخ شهير بالكرامات هو أبو الحجاج يوسف الشبربلي "وكان ممن يمشي على الماء وتعاشره الأرواح"(xv) وهكذا "كان يجلس على الأرض تحيط به المقابر، ويظل الساعات الطوال مأخوذاً بالوجد، هامساً بأحاديث مستسرة مع محدثين غير منظورين"(xvi)، يقول: "ولقد كنت انقطعت في القبور مدة منفرداً بنفسي.. وأنا أتكلم على من حضرني من الأرواح.."(xvii) ثم إنه رأى الخضر(xviii)، وشاهد مشاهدة عجيبة في قرطبة جاد عليه الله فيها بنعمة معرفة أسماء جميع الأقطاب وعددهم ممن كانوا قبل النبي(xix)، على أن من أهم رؤاه ما اتفق له عام 597 في مراكش فقد تجلى عرش الله له ذات يوم: "إن هذا العرش (عرش الله) قد جعل الله له قوائم نوارنية لا أدري كم هي ولكني أشهدتها ونورها يشبه نور البرق.. ورأيت الكنز الذي تحت العرش. ورأيت طيور حسنة تطير في زواياه، فرأيت فيها طائراً من أحسن الطيور، فسلم علي.." (xx)وكذلك ما رآه في بجاية في العام نفسه من نكاحه للنجوم: "رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلها فما يبقى منها نجم إلا نكحته بلذة عظيمة روحانية، ثم لما كملت نكاح النجوم أعطيت الحروف فنكحتها"(xxi).

    وتوج ابن عربي رؤاه التي لا تحصى والتي تتوالى مصحوبة بالوجد برؤية "ظاهر الهوية الإلهية "وذلك سنة 627ه: "رأيت في الواقعة ظاهر الهوية الإلهية شهوداً وباطنها شهوداً محققاً، ما رأيتها قبل ذلك في مشهد من مشاهدنا، فحصل لي من مشاهدة ذلك من العلم واللذة والابتهاج ما لا يعرفه إلا من ذاقه، فما كان أحسنها من واقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة"(xxii) ولا يكتفي ابن عربي بهذا الشهود المحقق وإنما هو يصور ما رآه في هامش الفتوحات، وفي السنة نفسها رأى ابن عربي الرسول صلى الله عليه وسلم وبيده كتاب "فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا، كما أمرنا"(xxiii)، وكتاب الفصوص نفسه "إلهامات يعزوها على التوالي إلى تعليم السبعة وعشرين نبياً الرئيسيين بين الأنبياء الذين يعترف بهم الإسلام"(xxiv).

    والفتوحات الذي هو خلاصة شاملة لكل مؤلفاته إنما أوحت به رؤيا من الرؤى العجيبة" إذ رأى ذات ليلة في المنام النبي محمداً وقد أحاط به جميع الأنبياء والملائكة والأولياء والعلماء المسلمين، فدعاه النبي للصعود على منبره، وخلع عليه بردته البيضاء، وألقى ابن عربي خطبة طويلة يقول إنها من وحي الروح القدس" (xxv) يقول ابن عربي: ".. والصلاة على سر العالم ونكتته، ومطلب العالم وبغيته.. الذي شاهدته عند إنشائي لهذه الخطبة في عالم الحقائق في حضرة الجلال، مكاشفة قلبية، في حضرة غيبية"(xxvi).

    تلك هي إذن فيوضات الرؤى تتوالى جامحة حافلة بالخيال، وكأنها غيبوبة الوعي الباطن، يحولها المجاز صوراً شعرية فيها ما في الشعر من تجربة وذوق، فإذا ما فهمت وحدة الوجود شعوراً جميلاً يجعل العشق مصدر الوجود، والجمال نوره ومجلاه، لم يكن ثمة منكر أو ومجادل يماري في أنها تحيي موات القلب، أما إذا فهمت فلسفة توحد بين العبد والرب، والظاهر والباطن، والقدم والحدوث، والأزل والأبد، فسيكون هنالك من ينكر، ومن يجادل، ومن يحاول التأويل، ولا تأويل.


    ولعمري إن ابن عربي يغدو – بعيداً عن عمايات الفكر –شاعراً من أعظم شعراء العالم خيالاً، شاعراً يتزوج بالنجوم فيكشف غموضها، ثم يتزوج بالحروف فيجلوا أسرارها، وما أكثر أسرارك.


    (*) - جامعة حلب.

    (i) انظر: اشبنجلر، د. عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات ودار القلم- بيروت 1982م ص80، 84

    (ii) د. محمود، عبد القادر: الفلسفة الصوفية في الإسلام.

    (iii) د. عفيفي، أبو العلا: فصوص الحكم، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1946 ص48 –49. ص 497

    (iv) ابن الفارض: الديوان، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى القاهرة 1953م، ص47.

    (v) الفصوص: فص إدريسي.

    (vi) الفصوص: آخر سطور الكتاب.

    (vii) الفصوص: ص92.

    (viii) نيكولسون: في التصوف الإسلامي، ترجمة د. أبو العلا عفيفي، لجنة التأليف والترجمة، القاهرة 1969 ص85.

    (ix) بلاثيوس: ابن عربي: ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو، القاهرة 1965 ص241.

    (x) الرومي: جلال الدين: المثنوي، ترجمة د. كفافي، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت 1/30.

    (xi) المثنوي: 1/35

    (xii) في التصوف الإسلامي ص94-95

    (xiii) هلال: د. محمد غنيمي، ليلى والمجنون في الأدبين العربي والفارسي، ص20

    (xiv) ابن عربي، بلا ثيوس ص10 الفتوحات 4/648

    (xv) المصدر نفسه ص15 الفتوحات 1/268

    (xvi) المصدر نفسه ص18 الفتوحات 3/58-59

    (xvii) المصدر نفسه: ص18- الفتوحات 3/58-59

    (xviii) المصدر نفسه: ص22- الفتوحات

    (xix) المصدر نفسه: ص33

    (xx) المصدر نفسه: ص33- الفتوحات 3/573

    (xxi) المصدر نفسه: ص 54- الفتوحات 1/8

    (xxii) المصدر نفسه: ص86-87- الفتوحات 2/591

    (xxiii) المصدر نفسه ص87- الفصوص ص4

    (xxiv) ابن عربي ص88

    (xxv) ابن عربي ص89

    (xxvi) انظر الخطبة: مقدمة الفتوحات 1/3-7

    مجلة التراث العربي - مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب - دمشق العدد
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 2:45 am

    بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    أمّا قبل أن نتحدّث عن الفرق بين النظريتين، فإنه يجدر بنا أن ننوّه على أمرٍ هام، وهو أنّه لا بدّ من عدم إنكار الخلق في كل الأحوال، فإنكار الخلق كفر لأنه إنكار للخالق، وتعطيل لجميع الأسماء الإلهية، وهذا لا يجوز شرعاً..

    وسبب البدء بهذا التمهيد للموضوع أنه قد فهم الكثيرون هاتين النظريتين خطأ.. وغالوا فيهما وتقولوا فيهما الكثير.. لذا كان الواجب سدّ الذرائع بالتقديم إلى أهمية بل إلى وجوب إثبات الخلق..


    أمّا وحدة الوجود، فهو ليس أنّ الوجود كلّه الله، بل أنّ الوجود كلّه أسرار الله، وأسماؤه وتجلياته..

    فإن الحقّ سبحانه قد استودع كلّ الأكوان والموجودات أسماءه الإلهية وتجلّى لها بأسراره، فقامت به، واستمدّت منه..

    والأسماء الإلهية تطلب بعضها بعضاً، ولهذا كانت هناك وحدة التجلّي الإلهي في الوجود، وإن كان التجلّي هو تجلٍّ أسمائي وليس تجلّياً ذاتياً..

    أمّا من قال بأن وحدة الوجود هي أنّ الموجودات هي صورٌ تجلى بها الله وكان عينها، فهذا خطأ، وإنما هي صور أوجدها الله، وتجلّى لها بأسمائه (يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك، في أي صورة ما شاء ركّبك)..


    أمّا وحدة الشهود، فهي مختلفة عن وحدة الوجود، في أنّ الأخيرة هي من جهة المُشاهَد، ووحدة الشهود هي من جهة المشاهِد..

    وهي أن يشهد المرء اللهَ متجلياً في كلّ شيء، وهو الفاعل لكلّ شيء..

    ولمّا كانت وحدة الوجود هي شهود أن الحقّ قائم في كلّ شيء، فإنّ وحدة الشهود هي شهود أنّ الحق قائم فوق كلّ شيء..

    وانتبه أنّ وحدة الوجود إذا ما فهمها المرء بصورة خاطئة وقع في زلل إنكار الخلق وتعطيل الإيجاد.. وأن وحدة الشهود إذا ما فهمها المرء بصورة خاطئة وقع في زلل إنكار الخير والشر، والصواب والخطأ، والثواب والعقاب..


    فانتبهوا أخواني من الوقوع في الزلل، فأهل العقيدة الصحيحة يثبتون كلّ ما أثبته الحقّ في كتابه وعلى لسان رسله صلوات الله عليهم وسلامه، قال من قال وأفتى من أفتى.. هذا هو طريق السلامة..




    عسى أن نكون قد وفقنا في توضيح الفرق بين الوحدتين.. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل..




    (سبحان ربك رب العزّة علاامّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين)

    منقول
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الإثنين أبريل 30, 2012 2:47 am

    خلاصة مفهوم وحدة الوجود عند الباحثين

    وحدة الوجود يقول الدكتور عثمان يحيى :
    « ما معنى هذا الوجود الذي يرون وحدته ؟ يجيبنا أنصار التوحيد الوجودي بما يلي :
    إن فكرة الوجود ينبغي أن تلحظ من جانبين ، وبالتالي أن تفهم على معنيين متميزين ، فيجب أن نلاحظ الوجود أولا من حيث مظاهره الخارجية ، وثانياً من حيث هو في حقيقته الذاتية .
    ففي الاعتبار الأول : الوجود هو بمعنى الإيجاد ، أي : هو الفعل المبدع الخلاق الذي تتحق به الموجودات كلها في صورها الوجودية … فكل ما في العوالم من كائنات منظورة وغير منظورة ، هي مظهر لهذا الوجود ( الإيجاد ) الواحد وأثر من آثاره … إنه واحد وهي متعددة ، قديم وهي حادثة … فوحدة الوجود على هذا المعنى الخاص : هي وحدة إيجاد فحسب ، ومن ثم لا تعارضها كثرة الموجودات الحادثة ولا تنفيها بل تثبتها وتبقيها …
    أما الوجود على الاعتبار الثاني ... نستطيع أن نتصور ثلاثة أنماط من الوجود :
    - وجود بشرط شيء ، وهو الوجود الجزئي المقيد بحدود الزمان والمكان والمادة .
    - وجود بشرط لا شيء ، وهو معارض للأول ، وهذا هو الوجود الكلي الذي هو مطلق بالقياس إلى الجزئي فقط .
    – وجود لا بشرط شيء ، وهو المطلق الذي هو غير مقيد بالإطلاق كالكلي كما هو مطلق عن التقييد وفي التقييد كالجزئي – وبدهي أن النمط الثالث من الوجود هو الذي يجب إسناده إلى ذات الحق تعالى ويصح حمله عليها .
    فوحدة الوجود في هذا الموطن : هي وحدة المطلق الذي هو وجود بذاته ومن ذاته لذاته ، ولا يعقل بتاتا تصور ثنائية أو كثرة في صعيد الوجود المطلق ، إذ الكثرة ثمة مظهر شنيع من ( الشرك العقلي الخفي ) أشد قبحا وأسوأ عاقبة من ( الشرك الديني الجلي ) (1) .

    ويقول الدكتور مارتن لنجز :
    « إن أحكم الصيغ عن وحدة الوجود ، مع ما فيها من إيجاز واقتضاب لتوجد في القرآن الكريم الذي تقول آية منه : فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ (2) . وتقول آية أخرى
    كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه (3) . وأخرى كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ (4) ... وعقيدة وحدة الوجود مشمولة ضمناً في اسم من أسماء الله الحسنى هو ( الحق ) ... إذ لا معنى لإثبات الحق ( الحقيقة ) كصفة أصلية من صفات الألوهية لو كان ثمة شيء غير الله حقيقي . ولفظ ( الوجود ) يعبر عن هذه الحقيقة المطلقة ، إذ أنه يشير إلى ما هو كائن ، كمغاير لما ليس بكائن ، وتقضي وحدة الوجود بالاعتقاد بأن وراء القناع الموهوم المخلوقات يوجد الحق الإلهي الواحد – ذلك لا يعني أن الله مكون من أجزاء ، ولكن معناه أن وراء كل جزء من أجزاء الكون المخلوق يبدو منفصلاً تمكن كمالية الله الواحدة اللانهائية في كليته التي لا تتجزأ »(5)

    ويقول الباحث عبد القدر أحمد عطا :
    « يعتقد بعض الدارسين أن وحدة الوجود عند الصوفية هي وحدة الوجود عند الفلاسفة ، والواقع غير ذلك . فوحدة الوجود عند الصوفية ، عبارة عن وحدة الأسماء والصفات الإلهية . فمثلاً وحدة الخلق يفهمونها هكذا : كل ما في الكون خلق الله ، فهو مظهر صفة الخلق ومجلاها الذي نستطيع أن نفهم صفة الخلق بها ، من حيث التدبر والتأمل ، ونتدرج منها إلى أن نستشرف على عين صفة الخلق ذوقاً وشهوداً وإحساساً ، لا اتحاداً ولا حلولاً ، وصفة الوجود الحق لله فحسب ، أما الموجودات الكونية فوجودها مستعار من وجود الحق ، وكل ما كان وجوده مستعاراً فليس وجوده أصيلاً فهو موجود لا موجود ، موجود وجوداً مستعاراً ، وليس موجوداً ، لأن الموجود الحق الذي يستمد وجوده من ذاته هو الله فقط .
    ثم تتجمع الأسماء والصفات الإلهية كلها في الاسم الجامع : وهو ( الله ) فصار الوجود الكوني راجعاً إلى الأسماء والصفات ، وصارت الأسماء والصفات راجعة إلى الاسم الجامع ، والاسم الجامع مغيب في غيب الذات التي لا يدركها مدرك على وجه الكون كله . ولا ضرر مطلقاً في اعتقاد هذا المذهب بأي حال .
    أما وحدة الوجود عند الفلاسفة ، فيقول فيها ( افلوطين ) أن الموجود المطلق لا يمكن بأي حال أن يعيش وحده ولذلك يفيض من ذاته موجودات أخرى »(6) .

    ويقول الباحث عزة حصرية :
    « المقصود من وحدة الوجود في الأصل : أن يكون الإنسان بالنسبة للعبدية في درجة الكمال ، وذلك على أساس أن لا تمحي أهواء النفس وأعراض الدنيا الزائلة عن نفس
    العبد ... فحسب ، بل تغلب عليه تلك الحال إلى أن يغيب وجود الرجل نفسه ، ويغيب عن وجود ذوات خلق الله تعالى بين يدي الحق سبحانه وتعالى نفسه ، فلا يرى ولا يشعر إلا به ... فوحدة الوجود ووحدة الشهود والتفاني والقرب والوصال كل ذلك اصطلاحات التصوف ، له ما يرادفه ويسير معه جنبا إلى جنب في اصطلاح الشريعة وهو : العبدية »(7) . الهوامش : ـ
    (1) – د . إبراهيم مدكور – الكتاب التذكاري ( محيي الدين بن عربي ) في الذكرى المئوية الثامنة لميلاده – ص 237 – 238 .
    (2) – البقرة : 115 .
    (3) – القصص : 88 .
    (4) – الرحمن : 26 – 27 .
    (5) – د .مارتن لنجز – الشيخ أحمد العلوي الصوفي المستغانمي الجزائري – ص 121 – 122 .
    (6) - الشيخ أبو طالب المكي – علم القلوب – ص 281 .
    (7) – عزة حصرية – إمام السالكين وشيخ المجاهدين – ص 66 – 67 .
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الثلاثاء مايو 22, 2012 12:13 am

    وحدة الوجود وإرهاصات النهضة العربية

    ضمن فعاليات احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، ألقى الكاتب الدكتور بكري علاء الدين محاضرة هامة عن الشيخ عبد الغني النابلسي. فيما يلي ننشر المحاضرة كاملة لأهميتها بموافقة من السيد المحاضر الدكتور بكري علاء الدين.
    1 - حياته:
    نسبه
    يؤكد الشيخ عبد الغني النابلسي بأن نسبه يرتفع إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب. وقد حاول سبطه محمد كمال الدين الغزي التحقق من ذلك بالرجوع إلى كتب التراجم المتوفرة لديه. والواقع فإن ثمة قائمتين بينهما حلقة مفقودة، وقد يكون الاتصال يبنهما ممكناً عن طريق النساء ولكن المعلومات المتوفرة لدينا لا تسمح بمثل هذا الربط. تنتهي القائمة الأولى إلى بني جَمَاعة الذين قطنوا جَمّاعيل في ضواحي القدس[1]، وهم من أوائل اللاجئين الفلسطينيين إلى دمشق إبان الحروب الصليبية. أما القائمة الثانية فتعود إلى بني قُدامة الذين يتسلسل نسبهم إلى الخليفة عمر[2].
    ويمكننا القول بأن أجداده تميزوا في دمشق واشتهروا بالعلم والصلاح إبان العهد العثماني وخصوصاً مع والي دمشق درويش باشا الذي بنى الجامع الذي يحمل اسمه حتى اليوم. وكان قد عيَّن إسماعيل بن أحمد النابلسي (993هـ/1585م) مدرساً وناظراً على وقف هذا الجامع. كذلك كان جد مؤلفنا عبد الغني بن إسماعيل مدرساً في نفس الجامع وناظراً على وقفه (1032هـ) وقد ورث والده إسماعيل بن عبد الغني (1062هـ/1652م) نفس المهام. وهو أول من انتقل من المذهب الشافعي إلى المذهب الحنفي بعد أن زار استنبول مراراً وحضر فيها دروس شيخ الإسلام يحيى بن زكريا (1053 هـ)، وظل يترقى في الوظائف حتى وصل إلى درجة «مدرس الصحن».
    مولده وطفولته وتعليمه
    ولد مؤلفنا عبد الغني بن إسماعيل أثناء غياب أبيه في القاهرة للتجارة وذلك في يوم الأحد الرابع من ذي الحجة سنة 1050 هـ/17 آذار 1641م (نابلسي، الحوض المورود، خ. دمشق مكتبة الأسد الوطنية (الظاهرية سابقاً) رقم 4008/ق 47 أ). بخط النابلسي المؤلف.
    كان والده أول أستاذ له، ويقال إنه ختم القرآن وعمره خمس سنوات. وفي التاسعة من عمره حضر مع والده المذكور سماعاً عند المولوية مع كثير من علماء دمشق والمفتين في المذاهب الحنفية والشافعية وغيرهم كشيخ الإسلام عبد الرحمن العمادي[3]. وحين بلغ العاشرة كان قد حفظ كثيراً من المقدمات ومن المنظومات مثل ألفية بن مالك في النحو، والكنز في الفقه، والشاطبية في القراءات، والرحبانية في الفرائض والجزرية في التجويد[4]. وفي نفس الفترة كان يتابع دروس نجم الدين الغزي (1061هـ/1651م) في الحديث (تحت القبة) في الجامع الأموي، وحصل على أول إجازة عامة في علم الحديث.
    توفي أبوه حين بلغ الثانية عشرة من العمر، وكتب أول أشعاره في رثاء والده. وقد تابع دراسته بإشراف والدته[5].
    بعد أن بيعت مكتبة أبيه الضخمة وأشياؤه الشخصية بالمزاد العلني لاقتسام ثمنها بين زوجتي المرحوم. قام النابلسي في وقت لاحق بشراء قسم من هذه الكتب ولكنه لم يستطع أن يستردها كاملة.
    عمله
    في العشرين من عمره مارس التدريس في الجامع الأموي في دمشق بالقرب من منزله الواقع في حي العنبرانيين. وحين بلغ الخامسة والعشرين ارتحل إلى أدرنة التي كانت مقر دار الخلافة، ثم زار استنبول وحصل على وظيفة قاضٍ في حي الميدان جنوب دمشق. غير أنه استقال من هذا المنصب وتفرغ للتدريس والتأليف، حيث ألَّفَ حتى عام 1090هـ حوالي الخمسين مؤلفاً بين رسالة صغيرة وشرح مُطَوَّل أو كتاب أصيل.
    أزمته
    ولما بلغ الأربعين من عمره مر بأزمة نفسية حادة اضطر على إثرها إلى الاعتزال في بيته خلال سبع سنوات لا يخرج من بيته إلا للضرورة القصوى. وقد أَسْدَل شَعْرَهُ وأرخى لحيته، إلا أنه لم ينقطع عن استقبال طلابه لتدريسهم ولا عن التأليف، وفي هذه الفترة ازدادت علاقته بالعالم الخارجي عن طريق المراسلات (التي كان قد بدأها منذ عام 1085هـ/1675م). وبلغت المكتوبات التي تلقاها وأجاب عليها عشرين رسالة تبادلها مع أنحاء متفرقة في الدولة العثمانية. وحين انتهت هذه الفترة التي أُصيب فيها بالسوداء أو الماليخوليا (mélancholie)، وكان قد طَلَّق زوجته أثناءها، وذلك بعد سبع سنوات، خرج إلى الناس الذين ازداد احترامهم له بعد أن كانوا قد رموه بالحجارة قبل خلوته، وذلك لتبنيه آراء ابن عربي الصوفية ودخوله في خصومات مع بعض فقهاء عصره.
    رحلاته ووفاته
    وإثر ذلك قام بعِدَّةِ رحلات إلى لبنان ثم إلى الشام ومصر والحجاز، وفي عام 1119م انتقل من بيته في دمشق قرب الجامع الأموي ليسكن في الصالحية حيث توفي سنة 1143هـ/1731م، ودُفِنَ في القبة التي كان بناها في بيته، ثم أقيم على قبره جامع في بدايات القرن الثالث عشر للهجرة. وفي الصالحية لم يتوقف عن إلقاء الدروس في تسهيل تفسير القرآن للبيضاوي وفي تدريس الفتوحات المكية لابن عربي.
    وفي تلك الفترة وبعد وفاة محمد العمادي (1135هـ/1723م) مفتي دمشق، عيّن والي دمشق عثمان باشا أبو طوق شيخنا النابلسي مفتياً. غير أن أحد تلاميذ النابلسي وهو خليل بن أسعد البكري ذهب إلى استنبول وعاد بمرسوم سلطاني ليتولى منصب الإفتاء رسمياً بدلاً من أستاذه الذي قضى في منصبه ستة أشهر أَعَدَّ خلالها سجلاً لفتاواه ما يزال مخطوطاً في المكتبة الوطنية بدمشق. (راجع أطروحتي بالفرنسية ج 2).
    ويخبرنا خليل المرادي في ترجمته للنابلسي أنه «أغلقت البلد يوم موته وانتشر الناس في الصالحية لحضور جنازته».
    2 - مؤلفاته:
    تجاوز عدد مؤلفاته الثلاثمائة كتاب ورسالة وشروح ودواوين شعر ورحلات. وقد كتب خاصة في التصوف والفقه والحديث والتفسير، ولكنه تناول كذلك موضوعات مختلفة مثل تفسير الأحلام والفِلاحة، ودافع في كثير منها عن رقص المولوية وسماع الموسيقى وخالف الفقهاء الذين أصدروا فتاوى في تحريم الحب والنظر الحلال وشرب القهوة والدخان وتكفير الناس بدون حجة واضحة. كما دافع عن الطرق الصوفية والتصوف بكل جرأة بعد أن بلغ مرتبة العارف التي يطمح إليها كل من سلك طريق التصوف. وأهم ما في ذلك هو الشعبية والشهرة التي اكتسبتها هذه المؤلفات، فإن كثيراً من مؤلفاته مُوَزَّعٌ في مكتبات العالم من برنستون في أمريكا إلى باريس وبرلين وسراييفو إلى استنبول ودمشق، وإن بعضها له أكثر من عشرة إلى عشرين نسخة مخطوطة، مما يدل على رواجها على مدى ثلاثة قرون.
    3 - بين التصوف والفقه:
    يمكن القول بأن المعركة قديمة بين الصوفية والفقهاء. فقد حكم الفقهاء على الحلاج بالموت، وصلبوه وأحرقوا جثته ونثروا رماده من أعلى المئذنة في نهر دجلة ببغداد سنة 309هـ/922م كذلك أعدموا عين القضاة الهمذاني سنة 525هـ/1130م، والسهروردي المقتول 587هـ/1191م بحلب. ومن هنا نفهم معنى قول ابن عربي بأن الفقهاء هم «فراعنة الصوفية».
    يميز النابلسي بين الفقهاء العلماء، وما يسميه «فقهاء العوام»، وهو يرى بأن فقهاء العوام هؤلاء أغلبهم من أهل القرى[6] والحرف يفتون بدون علم حقيقي فيضلون الناس ( إيضاح الدلالات ص 20). أو أنهم يسيئون الظن بالناس «فيخافون من ذنوب الناس لا من ذنوب أنفسهم» (جمع الأسرار في رَدِّ الطعن، دمشق، ص 121).
    إن الاطلاع الواسع للنابلسي على العلوم الدينية جعله مؤهلاً ليبحث عن التسهيل في الفتاوى دون التنقيب عن عيوب الناس، وحاول الرجوع إلى الأصول الأولى للإسلام بحثاً عن التسامح والمحبة. وكتب «غاية المطلوب في محبة المحبوب» في «مرافعة» ضد من جعلوا من الحب عاراً وجريمة في مدينة دمشق أواخر القرن السابع عشر (1097هـ/1686م).
    أما أهم كتبه فيبقى «الوجود الحق» الذي انتهى من تأليفه سنة 1104هـ/1693م (دمشق، 1995)، ودافع فيه عن نظرية وحدة الوجود.

    4 - وحدة الوجود قبل النابلسي:
    يصعب تناول مذهب وحدة الوجود وتطوره تاريخياً في عدد من السطور. ولكننا يمكن أن نشير إلى أهم المشكلات الناجمة عن هذا المصطلح وتطوره. فإذا أخذناه بالمعنى الواسع كما يفعل بعض المختصين وسواهم، فإنه يمكن إطلاقه على فلسفة الفارابي وابن سينا وتصوف الحلاج وابن الفارض وابن عربي وكثير غيرهم، لدرجة أننا قد لا نستثني أحداً فيصبح ثوباً فضفاضاً يتسع لمن هبّ ودبّ. إلا أن المصطلح لم يأخذ معنى مذهبياً إلا مع ابن تيمية في بدايات القرن الثامن للهجرة وبعد أكثر من 60 عاماً على وفاة ابن عربي.
    لقد وردت الكلمتان «وحدة الوجود» دون الإشارة إلى مذهب معين، لدى كل من السهروردي المقتول (587 هـ) في حلب، وأتباع ابن عربي مثل صدر الدين القونوي وابن سبعين، دون الإفصاح عن نظرية أو مذهب مخصوص. وورد مرة واحدة لدى ابن عربي في فتوحاته مشيراً إلى «وحدة وجوده» أي وحدة الوجود الإلهية.
    ومن العجيب أن تلاميذ ابن عربي في نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن، وبعد نقد ابن تيمية واستخدامه المصطلح بالمعنى السلبي، أي وحدة الله والعالم، فإنهم قبلوا نفس المصطلح وعرضوا مذهب أستاذهم، وخالفوا في عرضهم وشرحهم للمذهب اتهامات ابن تيمية وأتباعه.
    إن مشكلة وحدة الوجود تكمن في كونها مرتبطة بتجربة صوفية يُعبر عنها بتمثيلات وتشبيهات أكثر من إمكانية عرضها في مذهب متماسك. من هذه التشبيهات ما روي عن الشيخ نجيب الدين علي بن بزغش الشيرازي (678 هـ) حين سئل عن تبيين: «سر التوحيد» بمثال واضح، فقال: «مرآتان وتفاحة». وجرى ذلك بحضور شاعر كتب ذلك شعراً:

    «إن مثال وحدة الوجود إنْ تَروْه عني هاكَ يا فهيم:
    تفاحة من بين مرآتين فانْظُرْها تراها فبها التعليم»[7]


    ولا تختلف هذه التجربة لوحدة الوجود عما أصبح يطلق عليه في القرن العاشر للهجرة اسم «وحدة الشهود» وهو مصطلح ابتكره الشاذليون ثم النقشبنديون لتجنب تكفير القائل بوحدة الوجود من خلال الحملة التي أطلقها ابن تيمية والتي لم تتوقف حتى اليوم!. لذلك فإنه لا يمكن إطلاق وحدة الوجود بالمعنى الفلسفي الغربي لكلمة (Panthêisme) لأن المصطلح الأخير جرى ابتكاره في القرن التاسع عشر للميلاد لوصف فلسفة سبينوزا.
    5 - كتاب الوجود الحق:
    وعلى الرغم من هذا الهدف المعلن للكتاب، وهو الكشف عن «اعتقاد الأولياء» من الصوفية، فإن مشكلة أخرى تندرج في ثناياه، إنها مشكلة جدلية كلامية. وبتلخيص شديد، فإنه يمكن اعتبار كتاب «الوجود الحق»[8] رداً مباشراً على كتاب صغير الحجم (لا يتجاوز الخمسين صفحة) عنوانه «فاضحة الملحدين»[9]. وهو هجوم منظم على ابن عربي وكتابه «فصوص الحكم»، تم تأليفه في سنة 834هـ/1431م. وساد اعتقاد خاطىء لفترة طويلة (تتبناه حتى الآن الموسوعة الإسلامية ط2) بأن فاضحة الملحدين هي من تأليف المتكلم والبياني الشهير سعد الدين التفتازاني (792هـ/1390م). وعلى الرغم من أن التفتازاني لم يكن ميالاً إلى تصوف ابن عربي ومدرسته فإن المؤلف الحقيقي للفاضحة هو في الواقع محمد بن محمد علاء الدين البخاري (841هـ/1438م)، أحد تلاميذ التفتازاني. وعلينا أن نذكر هنا بأن النابلسي معجب بفكرة وآراء التفتازاني الكلامية لأنهما ينتميان إلى مدرسة واحدة هي المدرسة الأشعرية-الماتريدية. ولكن هذا لم يمنع النابلسي من الدخول معه في سجال ساخن حول آرائه في الوجود وعلاقة الوجود بالماهية[10].
    لقد صرح النابلسي بأن التفتازاني لا علاقة له بفاضحة الملحدين، ولكنه لم يذكر صراحة لا اسم علاء الدين البخاري ولا عنوان كتابه «فاضحة الملحدين»، وقد خلا كتابه «الوجود الحق» من ذكرهما، علماً بأن تأليف «الوجود الحق» في جانب كبير منه قائم على دحض الآراء الواردة في الفاضحة والتي تكفر بشكل صريح ابن عربي وأتباعه.
    هذه الإشارات إلى مشكلات تأليف الوجود الحق ضرورية لمعرفة البنية الثقافية التي نمت عليها آراء النابلسي. ذلك أن فاضحة الملحدين توجه إلى ابن عربي تهمة التصريح بوحدة الله والعالم، مثلما فعل ابن تيمية قبل ذلك بأكثر من مئة عام. وقد رد النابلسي على مثل هذه التهمة بقوله: «من قال إن حقيقة الوجود الحق هي جميع المخلوقات والمخلوقين فهو من الزنادقة الملحدين» وأتبع ذلك بقصيدة توضح نفس الفكرة:
    لست ممن يقول عن كل شيء إن الله، قول كل جهول...
    حيث لا شيء جامد هو عندي بل كبرق يلوح بين الطلول[11]

    إذا وضعنا جانباً هذا الجدل الكلامي فإننا نقع في كتاب الوجود الحق على رغبة النابلسي في عرض مذهب وحدة الوجود المنسجم مع الفكر الأشعري-الصوفي الذي ينافح عن قدرة التصوف الذوقية على تقديم صورة متماسكة للإنسان والعالم وعلاقتهما بالله.

    6 - دفاع النابلسي عن وحدة الوجود:
    يقرر النابلسي أن «الوجود الحق» هو المطلق الذي تتحد فيه ماهيته بوجوده. وطالما أن «الوجود» أشمل المقولات فإنه هو ماهية الله الوحيدة. وهذه الماهية أو هذا الوجود ليس صفة زائدة على ذاته. بل هو الذات عينها. ووجود الحق هو الوجود المحض الذي يتعالى «عن قيود الماهيات كلها المحسوسات والمعقولات. وليس له تعالى ماهية أصلاً غير الوجود المحض»[12]. وإلا فإن هذا التعالي سيفقد إطلاقه حينما يتقيد بأي شرط نسبي. فالوجود الحقيقي إذن، هو: الوجود الشامل والمطلق الذي لا يعزى إلا إلى الله. ويحذرنا النابلسي وكل أنصار وحدة الوجود من أن نقع في الالتباس الذي يتبادر للذهن عن طريق التبسيط، والحاصل من عكس القضية، كأن نقول: «طالما أن الله هو الوجود فذلك يعني بأن الموجودات هي الله». يقول البيتماني تلميذ النابلسي: «فالحذر الحذر من فهم ذلك فإنه خطأ عظيم. وقد نبهت على ذلك فيما تقدم مراراً لئلا يقع في التوهم في شيء من ذلك عند من لا يعرف اصطلاحنا في علمنا، ولا يدرك فهم إشارتنا في كلامنا»[13]. ونجد في نص آخر فهماً منطقياً لنفس المسألة، عند علي المهايمي: «الوجود: وهو واحد بالذات والشخص. وما يقبل التحقق، وهو الماهية: وهي واحدة بهذا المفهوم، مختلفة باختلاف ما صدق عليه هذا المفهوم، والماهية هي المسماة عندنا بالعين الثابتة»[14]، وهكذا، فإن كل ما صدقات هذا المفهوم تلبس لباس الوجود. إلا أن مجموع الموجودات لا يعطينا مفهوم الوجود. لأن النسبي مهما تكثر فإنه سيظل نسبياً أمام الوجود المطلق. والفرق الأساسي بين الوجود والموجود، هو أن الأول واحد «لا يتعدد ولا يختلف في نفسه» وأن الموجودات كثيرة. «والوجود أصل، والموجودات تابعة له، صادرة عنه، قائمة به. وهو المتحكم فيها بما يشاء من التغيير والتبديل»[15]، ويظل الوجود واحداً مهما اختلفت أسماؤه كالحق أو الله. فالوجود هو «قيوم» الحوادث والأشياء، وليس حالاً فيها ممازجاً لها، كما قد يُتوهم أيضاً.
    علاقة الوجود بالموجودات إذن علاقة «قيومية». وهو يتجلى لنفسه فيها، بواسطة الحب. كما يدل عليه الحديث القدسي: «كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق فبي عرفوني». فكل الصور الكونية هي تجليات الذات الإلهية، وكل الصور مرتبطة بالله الذي لا صورة له.
    وأول خطوة يجب أن نخطوها لفهم وحدة الوجود هي التفرقة بين الذات الإلهية أو الوجود المطلق بين التجليات أو الصور الكونية. فالذات لا تدرك إلا بالفناء فيها. أما التجليات فإنها تخفي وراءها حقيقة الذات. وفي التجربة الحسية والعقلية فإن أحداً لا يرى الله إلا من وراء ستار الأشياء. يقول النابلسي:
    «ما ثم إلا ذات، وصفات، وصفات الصفات (وهي الأفعال)، ومنفعلات وهي العالم. فالأول هو المعبود. والثاني الموصل إليه وهو الواسطة. والثالث هو العابد. والرابع هو العائق والمانع. والأول مرتبة الله تعالى. والثاني مرتبة محمد (ص) والثالث مرتبة المؤمنين. والرابع مرتبة الشيطان. وهذه الأربعة في الحقيقة شيء واحد. ولكنه تَنَزَّلَ وتَفَصَّلَ فظهرت له هذه الأطوار، وتعددت وجوداته. فالوجود العيني مرتبة الذات. والوجود العلمي مرتبة الصفات. والوجود القولي مرتبة الأفعال. والوجود الرقمي مرتبة الانفعالات»[16].
    فالوجود الحق هو الذي يمد كافة المراتب بالوجود. وتشبه هذه التنزلات انتقال نور السراج إلى عدد لا متناه من السرج «فإن معنى إيقاد السراج من نور آخر: أن الأول أثر في الثاني فظهر الثاني على صورة الأول. بل الثاني عين الأول ظهر في فتيلة ثانية من غير انتقال من الأول. وهذا غاية ماقدر عليه "أهل الوجدان" في التفهيم»[17].
    ويقرر مذهب وحدة الوجود أن الأشياء العيانية والأكوان ما هي إلا وسيلة تساعدنا على التعرف إلى المطلق. إلا أن معرفتنا بالمطلق معرفة حدسية وكلية فهي تختلف في الأساس مع المعرفة النظرية العقلية. وتطالعنا المعرفة الحدسية أو الوجدانية العيانية على أن الموجود الوحيد هو الله وأن كل الأكوان أوهام وخيالات وظلال. وأن العالم غير موجود إلا من خلال عقولنا.
    يقول الجزائري: «موجودية الأشياء تابعة للإدراكات لا غير»[18].
    وهنا نحب أن نوضح حقيقة هامة. فالصوفية لا ينفون حقيقة الواقع الخارجي بالنسبة للحس والعقل كما هو الأمر بالنسبة للسوفسطائيين الذين «ينكرون حقائق الأشياء ويزعمون أنها أوهام وخيالات كالنقوش على الماء». وأن أي نفي للوجود الخارجي لا يتم إلا بمقارنته بالوجود المطلق من خلال التجربة الروحية للمتصوف والتي يكتشف من خلالها أنه لا موجود على الحقيقة إلا الله. يقول النابلسي:
    «اعلم بأننا قاطعون جازمون بأن الأشياء كلها المحسوسات والمعقولات، موجودات متحققات ثابتات في نظر العقل والحس من غير شبهة أصلاً. ولكن هذا كله في نظر العقل والحس كما ذكرناه غير مرة، وكررنا ذكره ليتضح عند كل أحد. وليس مرادنا نفي الأشياء وكونها عدماً عند العقل والحس في جميع ما نقوله في هذا الكتاب وغيره من كتبنا. ونحن مع العقلاء في إثبات وجود الأشياء من المحسوسات والمعقولات من غير فرق بيننا وبينهم أصلاً.
    وأما مع قطع النظر والالتفات نحو نظر العقل والحس فليس شيء بموجود أصلاً مع الوجود المطلق الذي ذكرناه. بل ولا عقل ولا حس أيضاً في نظر أهل التحقيق. ولهذا نقول: إن علمنا هذا من وراء طور العقل لأنه فوق العقل»[19].
    7 - الكتابة في الهواء:
    رأينا مع النابلسي أن المعرفة الصوفية هي معرفة من وراء طور العقل أو «فوق العقل». كيف يصبح الوجود إذا ما نظر إليه من خلال الحقيقة الصوفية. ثمة تمييز أساسي بين عالم الحس وعالم المعنى. فالأول يعمل فيه العقل، والثاني من اختصاص التصوف، وهو يقود في النهاية إلى «المعرفة». الحس: عبارة عن تكثيف الأشياء ظاهراً. والمعنى: عبارة عن تلطيفها باطناً. فحس الكائنات أوان حاملة للمعاني. قال الششترى (ر): «لا تنظر إلى الأواني، وخض بحر المعاني، لعلك تراني." فمثال الكون كالثلجة: ظاهرها ثلج وباطنها ماء. كذلك الكون ظاهره حس وباطنه معنى. والمعنى: هي أسرار الذات اللطيفة القائمة بالأشياء. فقد سرت المعاني في الأواني سريان الماء في الثلجة.
    فلا قيام للحس إلا بالمعنى ولا ظهور للمعنى إلا بالحس. فالمعنى: رقيقة لطيفة لا تدرك إلا بتحسسها في قوالب الكائنات. فظهور المعنى بلا حس محال، وشهود الحس بلا معنى جهل»[20].
    ما هي طبيعة الكون من حولنا؟ كيف يبدو عالم الجمادات بالنسبة إلى الصوفي؟ نجد إجابة دقيقة على هذين السؤالين عند الشيخ النابلسي، دون اختلاف مع منطلقات النص السابق يقول النابلسي: «اعلم أن الأشياء كلها أمور لطيفة جداً، بحيث أنها بمنزلة الخيال والسراب الذي يرى من بعيد، وهو ليس بشيء، حتى الكثايف كلها: كالصخور والأحجار والجمادات والأشجار. وإنما رؤيتها كثيفة بغلبة الطبع، بل رؤيتها موجودة بالنظر العقلي. والحس تابع للنظر العقلي... وأما هي في نفسها فهي بمنزلة المعاني اللطيفة المتعقلة في عقل المتعقل من حيث قيامها وثبوتها بالوجود المطلق الحق»[21]. ويمكن تلخيص هذا المعنى في بيت من الشعر للنابلسي أيضاً:
    «حيث لا شيء جامد هو عندي بل كبرق يلوح بين الطلول»[22]

    ويوضح لنا الأمير عبد القادر الجزائري نفس الصورة بمثال أكثر تعبيراً وغنى. اعلم أن الحق تعالى هو الظاهر بهذه الصور المشكلة المحددة التي هي خيالات لا وجود ولا حقيقة لها إلا في المشاعر الإنسانية. كما إذا أخذت عوداً في طرفه نار، وأدرته بسرعة فإنك ترى دائرة نار لا تشك فيها. وكذا إن حركته حركة مستقيمة فإنك ترى خطاً من نار لا تشك فيه بحسك وتخيلك، وتحكم بعقلك وعلمك أنه: ليس ثمة إلا الجمرة التي على رأس العود. فهكذا جميع ما ترى في الأرض والسماء ليس إلا أمر الله الذي هو مجموع صفات الله الظاهر بكل صورة. «وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»[23].
    ويبدو أن فكرة الأمير هذه مأخوذة من قصيدة النابلسي التي يقول فيها:
    «وجه تعدد في المرائي وبـه تحير كـل رائي
    والكـائنـات بـأمره موج علـى صفحات ماء
    إن العـوالم كلـها بظـهورهـا والاختفـاء
    فـي سـرعة وتقلب مثل الكتابـة في الهواء
    شمس وكل الخلق في أنوارهـا مثل الـهباء»[24]

    وطبيعي بأننا لا نريد أن نعتبر هذا الكلام نوعاً من التنبؤ بطبيعة المادة، فالتصوف لا يتوخى تعميم أية معارف علمية. إنما علينا أن نعتبر العلم الصوفي، حقيقة واقعة لها معطياتها ومنطلقاتها الخاصة التي لا تتنافى مع الحياة الاجتماعية أو مع الفكر الإنساني، وذلك بالرغم من كل السلبيات التي قد تعترض هذا التأكيد.
    ولنتذكر بالإضافة إلى ذلك بأننا لا نفرض على النصوص تأويلاً يخرجها عن «مدخولها» أو سياقها المعرفي. «لنقل إذن أن معنى القضية الميتافيزيقية هو المعنى الذي منحها إياه المؤلف وأن ثباتها العيني مؤسس على حبلها بحقيقتها الخاصة»[25]. كما أن التصوف لا حاجة به لأي مدد يأتيه من الخارج للبرهان عليه. لأن التجربة الفردية للعارف بالله، هي دليل نفسها، وهو يعرضها علينا بوصفه شاهداً على المطلق.
    الصور التي سنعرضها، تمثل إذن أمثلة يحاول الصوفي من خلالها أن يقرب رؤيته من أذهاننا. إنه يدلي بأقواله حول «شهوده» للوحدة المطلقة باللغة المتاحة: لغة الرمز والاستعارة والتشبيه. أما المادة التي يستخدمها كقالب ينبسط المثل من خلاله فهي متراوحة بين الشفوف والتجريد والتشكل الواقعي.
    8 - الصور الشفافة:
    المثال الشائع في مدرسة وحدة الوجود حول العلاقة بين المطلق والنسبي هو مثال المرآة. ويركز ابن عربي على قيمة المرآة من حيث أنها تعطي الرائي لنفسه فيها صورة للتعرف على نفسه، لا ينال مثلها في حالة تأمله لنفسه دون وسيط كالمرآة. «فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة، فإنه يظهر له نفسه في صورة يعطيها المحل المنظور فيه مما لم يكن يظهر له من غير وجود هذا المحل»[26]. ويعتبر ابن عربي كذلك أن في المرآة حكمة غير خفية على المتأملين فهو يقول:
    «أيها الناظر في وسط المراء من هو الذي فيه ترى؟
    حـل فيه أحـد غيركـم أم خيال منكم فيه سرى
    أعـد النـظرة فيها إنهـا حكمة كامنة بين الورى»

    ولا يني تلاميذ ابن عربي من بعده عن استثمار هذا المثال لكنهم توصلوا إلى تفريعات جديدة مستقاة من تأثيرات الظل والنور على عين الرائي. فالشيخ حسين بن طعمة البيتماني (توفي عام 1175هـ) يعرض علينا مثالاً استقاه من الفن الشعبي الذي اشتهر بعصره باسم «خيال الإزار» أو ما يسمى بالتعبير المعروف "الكراكوز" فاللاعب أو الإنسان الذي يحرك «الشخوص» الورقية ليعكس ظلها على الستارة أو الإزار المقابل لأعين المتفرجين. هو رمز للوحدة أو للإله. وتمثل ظلال الشخوص المتحركة فوق الستارة كما يراها الحضور عالم الكثرة والأكوان. إلا أن هنالك حقيقة أساسية ترتبط بانتهاء العرض، حينما يطوي اللاعب شخوصه ويمضي. فإنه هو الحقيقة أما ظلال الأشخاص فإن وجودها نسبي، أي أنه مرتبط بجملة ظروف توحي بأنه وجود حقيقي. أما الوجود الواحد فهو الوجود الحق أبداً.
    وبنفس الطريقة يتحدث الأمير عبد القادر الجزائري فيما يتعلق باختراع «آلة التصوير»[27] في عصره. إن التعيين الأول أو «الحقيقة المحمدية» هي الصورة الكونية الأساسية التي ظهرت من تجلي الذات على مرآة الأكوان. إلا أننا نستطيع الحصول على ما لا نهاية له من النسخ عن هذه الصورة، دون أن تمس وحدة الحقيقة القائمة وراء هذه الكثرة.
    ولا يقتصر الأمر على العين في مجال الصور الشفافة. بل للأذن نصيب في ذلك. إن المؤلف أو الفنان يستطيع أن يخلق في ذهنه عدداً من الشخصيات التي تتحاور في رأسه، ويستطيع أن يتلفظ ببعض أقوال هذه الشخصيات وأن يصغي إليها «كتجريد البيانيين. يخاطب الإنسان نفسه بنفسه بما يريد، ويسمعها ويجيبها بها ويحاورها بها ويعاتبها بها. فيقبل بها أو يرد بها. وهو هو لا ثاني له: فإنه واحد بالحقيقة غير متحد، كرجع الصدى، فإنه ليس هنا إلا الصوت حقيقة وعلماً وهو اثنان مجازاً ووهماً»[28].
    9 - الصور المائية:
    تتشكل عن الماء آلاف الأنواع وما لا يتناهى من الصور وهو واحد بذاته «فالماء حقيقة واحدة تختلف صوره بختلاف القوالب من أنواع النباتات والفواكه والزروع والأواني»[29].
    كما أن الماء يمكنه أن يكون مطراً وثلجاً وبرداً حسب دورته في الطبيعة وهو هو في تركيبه الأساسي.
    إلا أن الصورة التي يستمدها الماء بوصفه بحراً وموجاً تعبر عن لا نهائية الموج ووحدة البحر.
    يقول الجيلي:
    «كالموج حكمهم في بحر وحدته والموج في كثرة بالبحر متحد
    فإن تحرك كـان المـوج أجمعه وإن تسـكن: لا موج ولا عدد»[30]

    فالذات الإلهية أو الوجود المطلق وراء كل المظاهر المتغيرة. دون حلول أو اتحاد. أو بالأحرى هنالك معادلة ذات اتجاه واحد تقول بأن الله هو الوجود الذي في أصل الموجودات. لكن الموجودات ليست هي الله. وأهم ما تتميز به الذات هو الوحدة وعدم إحاطة العلم الانساني بها. يقول النابلسي في هذا المعنى من ديوانه:
    «تجلت كما شاءت، وشـاءت كما درت وتدري كما يعطيه في نفسه الأمر
    فكنهـا علـى غيب، ولا كنـه ترتجي لهـا، فسواها موجها وهي البحر
    ومـا حـل فـي الأمواج بحر ولا به قد اتحدت بـل تلك عنه لها النبر»[31]

    ولئن كانت الصور المائية متوسطة بين الكثيف واللطيف فإن مثالاً يسوقه لنا الشيخ النابلسي، ينقلنا إلى إحساس أقوى بالتشكل المجسد الكثيف، يربطنا بالواقع الحي وتحولاته ألا وهو اعتبار الامكانيات المتاحة عن التشكيلات التي تمنحها لنا قطعة الشمع. وتغدو الحقيقة التي يمثل لها هنا أكثر التصاقاً بالمخيلة المباشرة.
    «كم صورة في قطعة الشمع مفيـدة للفرق والجـمع
    يظـهرها صـانعها سرعة فتبهـر الأبصـار باللمع
    وتختفـي ثم يرى غيرهـا يضحك أو يبكي بلا دمع
    وكلهـا فـانية، لا تـرى هـناك إلا قطعة الشـمع»

    فـاعـتبروا فعـل الـوجـود الـذي أنتـم بـه النصـوص في السمع[32].
    10 - النابلسي وابن عربي ووحدة الوجود:
    الشيء الأساسي الذي يجب أن ننبه إليه هنا هو أن النابلسي قام بهندسة المكان الذي يجب أن توضع فيه نظرية وحدة الوجود. إنه مكان محدد ضمن إطار علم الكلام الأشعري كما يمثله في أوج كماله كل من الشريف الجرجاني وسعد الدين التفتازاني في نهاية القرن الثامن للهجرة. وثمة اعتقاد خاطىء بأن الفلسفة العربية الإسلامية قد ماتت بموت ابن رشد. لقد اثبت هنري كوربان (ت سنة 1979م) بأن الفلسفة استمرت في الدولة الصفوية مع الملا صدر الدين الشيرازي وأتباعه في إيران حتى اليوم. كما أنها لجأت في المشرق الإسلامي إلى علم الكلام الأشعري، واحتلت مشكلة الوجود مكاناً بارزاً في كتابي الجرجاني (شرح المواقف) والتفتازاني (شرح المقاصد).
    وإذا كان التفتازاني متحفظاً بالنسبة لتصوف ابن عربي وأتباعه، فإن الجرجاني كان متعاطفاً بل ومدافعاً عن نفس المذهب. إن اكتشاف هذه العلاقة بين الانطولوجيا (مبحث الوجود) الكلامية وبين وحدة الوجود التي زاوجت بين البحث النظري[33] والتجربة الصوفية يسمح لنا بالقول بأن الفلسفة العربية الإسلامية كان لها ممثل أساسي هو الشيخ عبد الغني النابلسي والذي تابعه في دمشق الأمير عبد القادر الجزائري (ت 1883م) دفاعاً عن أنطولوجيا صوفية-فلسفية يجب إعادة الحياة إليها لوصل الماضي بالحاضر.

    11 - النابلسي وإرهاصات النهضة العربية:
    ثمة فكرة هامة ومغربية يتبناها بعض الباحثين والمتخصصين بالنابلسي تؤكد على أنه يمكن اعتبار النابلسي من المبشرين «بالنهضة العربية». وسوف نرى بأن هذه الفكرة مبالغ فيه لخروجها عن السياق التاريخي لبداية ما يسمى «النهضة العربية» التي تجسدت إرهاصاتها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو بداياته إذا ما أردنا اعتبار حملة نابليون على مصر مؤشراً أساسياً لاحتكاك العرب مع الحضارة الغربية (الأسلحة الجديدة والطباعة والثقافة العلمية).
    وفي هذه الحالة فإن النابلسي قد توفي قبل هذا الحدث بـ 70 سنة. ومن جهة أخرى فإن النابلسي كان ينتمي إلى إطار تاريخي أوسع هو إطار الدولة العثمانية التي لم تقع في براثن التخلف التدريجي إلا بعد 1850م، أي مع بدايات العصر الصناعي في الغرب كما يؤكد المؤرخ الفرنسي بروديل.
    يرى بروديل أن الدولة العثمانية كانت قادرة على البقاء لأنها تشكل بمفردها «اقتصاد – عالم» (Economic monde) لولا التطور الكيفي والنوعي للاقتصاد في غرب أوروبا.
    إن الإغراء الذي تحدثنا عنه والذي يحاول إرجاع إرهاصات «النهضة العربية» إلى النابلسي يصطدم بصعوبات منهجية. وعلى الرغم من هذه الصعوبات فإن النابلسي كان يسبق عصره بأفكاره المنفتحة على الآخر وكتاباته الإصلاحية. إن كثيراً من هذه الكتابات ذات الطابع الفقهي كإباحة شرب الدخان (بالاستناد إلى معطيات طبية كانت سائدة في عصره) وإباحة «سماع الآلات» الموسيقية (حضر النابلسي قبل وفاته بعدة أشهر سماعاً موسيقياً، عزفت فيه آلة الكمان في دمشق وفي حي سوق ساروجا) وغيرها تؤكد أنه كان يرى في الفقه الإسلامي أداة لرفع الحرج وكسر التعصب بحسب القاعدة الفقهية المشهورة: «الأصل الإباحة».
    ويساعدنا تطور حياته الشخصية واعتزاله الناس لمدة سبع سنين في بيته بعد أن بلغ الأربعين من العمر إلى فهم معاناته مع الفقهاء، والجهد الهائل الذي بذله في «مجاهدة النفس» وخدمة العلم كي يرقى إلى مراتب كبار الصوفية. أضف إلى ذلك أسلوبه الواضح والأصيل في الكتابة لتوصيل آرائه إلى الناس. لقد ابتعد عن أسلوب السجع السائد في «عصور الانحطاط» واستخدم طريقة في الكتابة تقرب تجربته الصوفية وآراءه في وحدة الوجود إلى مثقف عصره بشكل ناجح جداً، وهذا هو سبب اشتهار مؤلفاته. ونلمس ذلك في مؤلفات عديدة مثل «كتاب الفتح الرباني والفيض الرحماني» الذي ألفه سنة 1085هـ. يعرض النابلسي في هذا الكتاب بأسلوب يشبه كثيراً أسلوب كتابنا اليوم الأخلاق الصوفية الضرورية لكل مسلم، وهو من كتبه الأصيلة والمميزة، نشره في بيروت الأب أنطونيوس شبلي اللبناني سنة 1960 وقدم له بمقدمة لطيفة وضافية.
    ويظل كتابه «الوجود الحق» من أهم مؤلفاته، بل أهم كتاب في عرض نظرية وحدة الوجود كلامياً وفلسفياً في المشرق العربي خلال القرون الثلاثة الماضية. ويمكن القول بأنه أهم كتاب يعرض مذهباً فلسفياً متماسكاً فكرياً. وهو يشبه في مخططه وبنائه وذكر مراجعه بدقة علمية بالغة أفضل الأطروحات التي تكتب اليوم في الجامعات العربية، وذلك إذا التمسنا له عذر الوسائل الضئيلة المتاحة في عصره بالنسبة لما يتمتع به طلاب اليوم من تقنيات التعليم والكتابة والطباعة والمكتبات والانترنت التي لم يكن النابلسي ليحلم بها. إذ أنه ألف كتبه كلها قبل دخول الطباعة إلى الدولة العثمانية بقرن من الزمان.
    وإذا تركنا جانباً نجاح كثير من رسائله الصغار وشروحه على كثير من المؤلفات في الوسط الدمشقي والعربي والعثماني، فإننا لا نستطيع إغفال أثر تدوينه لرحلاته الأربع التي وصف فيها بلاد الشام ومصر والحجاز والتي نشرت الآن كلها[34]. ولا دواوينه الشعرية العديدة التي وصف فيها تجاربه الصوفية كما وصف الطبيعة والأماكن التي كان يزورها في دمشق ونواحيها. وخاصة شعره أثناء خروجه مع عدد من أصدقائه وتلاميذه إلى الغوطة في «السيران» الذي ما يزال مشهوراً حتى الآن في الأوساط الشعبية الدمشقية.
    من خلال ذلك كله يمكن اعتبار النابلسي كمؤلف أقرب إلى عصرنا منه إلى العصر العثماني. أما آراؤه في وحدة الوجود فهي بحاجة إلى دراسة وتأطير داخل اتجاه عام يبحث عن تطور الفلسفة العربية الإسلامية حتى عصرنا الحالي. لقد سبق النابلسي عصره، ولكننا فنياً وعلمياً لا يمكننا اعتباره من رواد عصر النهضة العربية!
    الهوامش
    1. الورد الأنسي والوارد القدسي في ترجمة العارف عبد الغني النابلسي، صورة مخطوط كان بحوزة المرحوم محمد أديب النابلسي، ق 12 أ وما بعدها يوجد منه نسخة خطية أخرى ج 2، ص 75 وما بعدها (باريس،1985) في مكتبة الجامعة الأمريكية في بيروت.
    2. ر. أطروحتي.
    3. ر. النابلسي، العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولوية، دمشق 1932، ط2، ص40. وله أيضاً إيضاح الدلالات في سماع الآلات، تحقيق أحمد راتب حموش، دمشق 1981، ص 57.
    4. ر. الوِرْد الأنسي، من 39 أ.
    5. أمه هي زينب بنت محمد بن ابراهيم الدويك، وهو تاجر دمشقي توفي في الهند. وتوفيت والدته سنة 1104هـ. وقد كانت أثناء حملها بشيخنا تزور قبر الصوفي المجذوب يوسف القميني (ت657/1259) وقد قدمت نذوراً لخادم ضريحه وهو الشيخ محمود الحلواني الذي توفي قبل ولادة النابلسي بيوم واحد بعد أن تنبأ لها بأن ابنها سيكون له شأن عند الله. (ر. أطروحتي بالفرنسية عن حياته جـ2).
    6. ويخبرنا صوفي آخر من القاهرة بأوضاع مماثلة لفقهاء زمانه بقول إبراهيم بن علي المتبولي (وهو صوفي كبير من القاهرة ت886هـ) المنياوي طبقات الصوفية تحقيق أديب الجابر، بيروت 1999 جـ3 ص122: «[حكم] أولاد الفلاحين الذين يقرؤون بالجامع الأزهر حكم من سافر ليتعلم آلة الجهاد من الرمي وغيره، فلما تعلم سافر ليجاهد. فقطع الطريق واكتفى بذلك. فهم اتخذوا علمهم آلة لحرب من يخاصمهم ونسوا ما شُرع العلم لأجله من العمل والخشية والورع والزهد ونحو ذلك».
    7. ر. عبد الرحمن الجامي، (ت 898هـ)، نفحات الأنس، تحقيق محمد أديب الجادر، بيروت 2003، جـ2، ص642.
    8. نشر هذا الكتاب بتحقيقي في المعهد الفرنسي بدمشق عام 1995، يتألف النص من 291 صفحة، مع مقدمة باللغة الفرنسية (ص1-82) بالإضافة إلى مقدمة التحقيق والفهارس. ويطلق النابلسي على الفصل اسم «الوصل» مشيراً إلى عدم الانقطاع بين فصول الكتاب السبعة والأربعين.
    9. حول فاضحة الملحدين ر.مقدمة الوجود الحق بالفرنسية، ص15-30.
    10. ر.مقدمة الوجود الحق بالفرنسية ص ص45 – 52. من جهة أخرى فقد أشار محمد عدنان درويش إلى إمكانية كون التفتازاني "ماتريدياً"، في مقدمته لتحقيق شرح العقائد النسفية للتفتازاني، دمشق 1141هـ، ص16، ولكنه لم يقدم أي دليل على ذلك. وكان النابلسي قد كتب رسالة للتوفيق بين الأشعري والماتريدي. ر. رسالتي للدكتوراه:
    "Abd al-Gani an-Nabulusï, vie et doctrine, Paris 1985, Vol.2, p.204." (تحقيق الانتصار في اتفاق الأشعري والماتريدي على خلق الاختيار).
    11. الوجود الحق، ص17.
    12. النابلسي، شرح التحفة المرسلة، مخطوط، ظاهرية 1377 ق 54ب.
    13. كشف الأسرار، مخطوط، ظاهرية رقم 11268 ق 281 آ.
    14. الجود لمعرفة وحدة الوجود، مخطوط، ظاهرية رقم 7965 ص 73 و74.
    15. النابلسي، الوجود الحق، مخطوط، ظاهرية رقم 6069 ق 5آ.
    16. الفتح الرباني والفيض الرحماني، تحقيق الأب أنطونيوس شبلي، المطبعة الكاثوليكية بيروت 1960 ص51.
    17. الأمير عبد القادر الجزائري، المواقف، ص186.
    18. المواقف، ص124.
    19. الوجود الحق، مخطوط، ظاهرية 6069 ق68آ.
    20. أحمد بن عجيبة (توفي 1809)، معراج التشوف إلى حقائق التصوف، دمشق 1937 ص32.
    21. الوجود الحق، مخطوط، ظاهرية رقم 6069 ق 64 ب، 65آ.
    22. المرجع السابق، ق 3آ.
    23. المواقف، ص68.
    24. النابلسي، مجموع الدواوين، مخطوط، ظاهرية رقم 710 ق 67آ.
    25. د. بديع كسم، فكرة البرهان في الميتافيزيقا، المنشورات الجامعية الفرنسية، باريس 1959، ص28.
    26. ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق عفيفي، دار الكتاب، بيروت ج1 ص48.
    27. انظر، المواقف، ص 589 – 602.
    28. المرجع السابق، ص535.
    29. الأمير الجزائري، المواقف ص156.
    30. الإنسان الكامل، القاهرة 1328هـ ص38.
    31. مخطوط، ظاهرية رقم 7210، ق56.
    32. النابلسي، المرجع السابق، ق 135ب.
    33. ر. "المنهج العقلي عند ابن عربي وعبد الغني النابلسي" (ص47 – 79) في فيكتور سعيد باسيل، وحدة الوجود عند ابن عربي وعبد الغني النابلسي، بيروت 2006.
    34. نشر صلاح الدين المنجد رحلته إلى البقاع (حلة الذهب الإبريز في رحلة بعلبك والبقاع العزيز) ورحلته إلى طرابلس الشام. كما حقق أكرم العلبي رحلته إلى القدس. أما رحلته: الحقيقة والمجاز في رحلة مصر والشام والحجاز فقد حققها الأستاذ... مراد.


    بكري علاء الدين
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 1:56 am

    لا ريب أن الله تبارك وتعالى هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً احد ، والكون بأسره ما هو إلا صفحات مشرقة بأنوار ربوبيته تبارك وتعالى من حيث إن ربوبيته تتجلى في كل ذرة من ذرات الوجود ، ولذلك قال بعض العلماء الربانيين كل ذرة من ذرات الوجود إنما هي كلمة من كلمات الله ، ناطقة بتوحيده سبحانه وتعالى وتنزيهه ، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة .


    وهذا ما يدل عليه القرآن الكريم لأن الله تبارك وتعالى أحال في القرآن على النظر في آيات الله تبارك وتعالى في الأنفس وفي الآفاق فقد قال ( أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(ابراهيم: من الآية10) ، أي كيف يشك الإنسان في وجود الله مع أن دلائل هذا الوجود بأسره دالة على وجوده ، ويقول سبحانه وتعالى ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)(البقرة:163) ، ثم أتبع ذلك قوله ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164) ، ومعنى ذلك أن الله سبحانه بعدما ذكر أنه الإله الواحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وأن ما يعبد سواه ليس هو من الألوهية في شيء بعدما بيّن أدلة ذلك من خلال ما يتجلى للإنسان ويتراءى له في هذا الوجود المترامي الأطراف الواسع الأرجاء ، فإن هذا الكون كله على تباعد أطرافه وتراميها هو وحدة متكاملة ، كل جزء منه مكمل لبقية الأجزاء ، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يكون صدر عن أكثر من مكون واحد ، بل الذي أوجده إنما هو خالق واحد ، ذلك لأنه لو كان هنالك أكثر من خالق لاستقل كل واحد منهم بإرادته ، وإذا استقل كل واحد منهم بإرادته فلا بد من أن يكون مستقلاً بمراده ، فيريد هذا الشيء بخلاف ما يريده الآخر ، يريده أحدهما طويلاً ويريده الآخر قصيراً ، يريده أحدهما أبيضا ويريده الآخر أسودا ، يريده أحدهما ليناً ويريده الآخر صلباً ، يريده أحدهما ناعماً ويريده الآخر خشناً ، وهكذا تختلف الإرادات ، وباختلاف هذه الإرادات يختلفون في المراد ، وهذا مما يؤدي إلى التنازع وإلى عدم انتظام هذا الوجود وذلك الذي دل عليه قوله سبحانه وتعالى( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا )(الانبياء: من الآية22) ، ولكن يتجلى في شهود هذا الوجود كله أن الله تعالى إله واحد وذلك لأن هذا الوجود بأسره منتظم منسجم متناسق كل جزء منه مكمل لبقية الأجزاء فلا شذوذ ولا اضطراب ولا يوجد شيء فيه من التناقض ، وهذا دليل واضح على وحدانية خالقه . فوحدة الشهود تتجلى في هذا لأن الله تبارك وتعالى يتجلى وجوده في كل ذرة من ذرات الوجود .

    هذا ما يشاهده او يجده كل موحد وعلى ايطار ان الفلاسفة طرحوا هذه النقطتين فتصدى لهم اهل التصوف من الناحية الاسلامية والعقيدة الغراء واوضحوا الجانب المنير و ابانوا الجانب المظلم والغريبة اني نقلت هذه المقدمة من ممن يعادون التصوف ويصفهم بعد مقدمته هذه مع انها فيها بعض التشويش التي لم يختلف فيها مع العلامة ابن عربي غير ان ابن عربي توضيحه وبيانه اعمق وهو الذي كتب هذه المقدمة جاء بعدها بهجوم وتدليس على اهل التصوف وكانه يضحك على نفسه بأن اهل التصوف ذكروا تعريف وحدة الوجود بانها هي الحلول والاتحاد وعدم التفرقة بين الله وبين غيره من الموجودات وهذا مفترا عليهم وباطل وليس له من الصحة فما بالك اخي الكاتب هذه العبارات اوضحت ما تبصرت به من بروق ورعود انوارهم من مشيك في صفحات كتابهم فلما اظلم عليك من ما رددته على نحو تفكيرك الخاطئ و بثثت تضليلك لمن لم يتطلع على اصله خضت فيهم حربا شعواء ولم تواجههم فحري بك الانصاف ايه الدعوي المتحامق.
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 1:58 am

    ربما كانت مسألة وحدة الوجود من أهم المسائل العويصة والكبيرة التي دار حولها البحث والنظر بين أطراف عديدة، لا في التاريخ الإسلامي فقط، بل في تاريخ الفكر الإنساني بشكل عام، ولا أقول إن هذه النظرية كانت منتشرة مقبولة بين الناس منذ أوائل التاريخ الإنساني، لا، بل أقول فقط إنها كانت من المسائل التي وضعها العقل الإنساني تحت النظر والبحث، بل أستطيع أن أقول أكثر من ذلك: إن هذه المسألة لم تزل من المسائل المردودة منذ أبعد الأزمان والتاريخ، إلا عند طائفة محصورة معدودة من الفلاسفة الذين لم يكتب لأرائهم النجاح والانتشار والقبول مقارنة بغيرها من المسائل.
    وأساس هذا المذهب هو الاعتقاد بأنه لا وجود إلا لله تعالى، وأن المخلوقات لا وجود لها، وإنما ينسب إليها الوجود على سبيل المجاز، وأما في الحقيقة فلا وجود لها مطلقاً.
    وفكرة التوحيد كما هي عند أهل السنة لا تنافي تعدد الوجود والموجود؛ فتكثُّر الوجود والموجود هو أساس التوحيد عند أهل السنة، بمعنى أن التوحيد إنما هو حصر الوجود الواجب في الله تعالى، ولا يتضمن ذلك نفي الوجود الجائز عن المخلوقات.
    إن فكرة توحيد الله تعالى هي الفكرة الأبعد والأكثر قبولاً عند الجنس البشري، وتوحيد الإله، لا يعني من قريب ولا من بعيد، المعنى الذي يريده القائلون بوحدة الوجود، فالإيمان بوحدة الله تعالى أساسه هو الاعتقاد بأنه لا واجب للوجود إلا هو عز وجلَّ، وأنه هو الفاعل المختار، لا مؤثر في الوجود إلا هو، وأنه لا اشتراك بينه وبين المخلوقات في حقيقة الذات ولا في حقيقة الصفات.

    "مِـنَــحُ الوَدُودِ

    في بيـــَـانِ مَـذْهــَبِ

    وحْدَةِ الوُجــُـودِ
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:09 am

    جامعة روتردام الإسلامية
    كلية العلوم الإسلامية

    مِـنَــحُ الوَدُودِ
    في بيـــَـانِ مَـذْهــَبِ
    وحْدَةِ الوُجــُـودِ

    تصنيف
    الأستاذ العلامة المتقن
    سعيد فودة
    حفظه الله تعالى

    1423 هـ - 2002 م

    [ اعلم أيها القارئ العزيز، أني لستُ عدواً للصوفية، ولا منكراً لوجود أولياء الله وكرامتهم.
    وأعترفُ بأنَّ علم العلماء قد لا يكفي في إصلاح الناس وتهذيب نفوسهم، بل وفي تهذيب العلماء أنفسهم، فتحصل الحاجة إلى الطرق الصوفية لإكمال هذا النقص بتدريب المسلمين وتمرينهم على العمل بمقتضى علم العلماء من أحكام الشرع الأنور، لا لمصادمة علم العلماء ومذاهب أهل السنة في أصول الدين وفروعه.
    ولستُ أيضاً من الوهابيين الذين لا يحترمون عباد الله المكرمين بعد موتهم.
    ولا أدعي الفضل على أحد، ولا أحسدُ أحداً على فضله.
    ومع هذا كله فإني عبد الله، لا عبد أي أحد اشتهر بأنه ولي من أولياء الله، فلا أضحي بمقام ربي جل وعلا لمنـزلة ذاك الولي عند الناس، ولا أعترف له بامتياز أن يقول في ذات الله ما لا يقبله العقل ولا شرع الإسلام، ولا بامتياز أن يفسر كلام الله وكلام رسوله بما يشاء هواه ويشبه التلاعب بهما أو يضاد ما سيقا له ].

    موقفُ العقلِ والعِلْمِ والعَالَمِ (3/92)
    شيخ الإسلام
    مصطفى صبري
    رحمه الله تعالى
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:10 am

    بسم الله الرحمن الرحيم

    مقـدِّمة
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين:
    وبعد:
    ربما كانت مسألة وحدة الوجود من أهم المسائل العويصة والكبيرة التي دار حولها البحث والنظر بين أطراف عديدة، لا في التاريخ الإسلامي فقط، بل في تاريخ الفكر الإنساني بشكل عام، ولا أقول إن هذه النظرية كانت منتشرة مقبولة بين الناس منذ أوائل التاريخ الإنساني، لا، بل أقول فقط إنها كانت من المسائل التي وضعها العقل الإنساني تحت النظر والبحث، بل أستطيع أن أقول أكثر من ذلك، إن هذه المسألة لم تزل من المسائل المردودة منذ أبعد الأزمان والتاريخ، إلا عند طائفة محصورة معدودة من الفلاسفة الذين لم يكتب لأرائهم النجاح والانتشار والقبول مقارنة بغيرها من المسائل.
    إن فكرة توحيد الله تعالى هي الفكرة الأبعد والأكثر قبولاً عند الجنس البشري، وتوحيد الإله، لا يعني من قريب ولا من بعيد، المعنى الذي يريده القائلون بوحدة الوجود، فالإيمان بوحدة الله تعالى أساسه هو الاعتقاد بأنه لا واجب للوجود إلا هو عز وجلَّ، وأنه هو الفاعل المختار، لا مؤثر في الوجود إلا هو، وأنه لا اشتراك بينه وبين المخلوقات في حقيقة الذات ولا في حقيقة الصفات، وإن كان الاشتراك في الإطلاق اللغوي حاصلاً بين الخالق والمخلوق في بعض الألفاظ، كاسم العالِم، يطلق على الإنسان وعلى الله تعالى، واسم السميع والبصير، وغيرها، فالاشتراك واقع فقط في اللفظ، ولا اشتراك في المعنى. وأما الاشتراك في الأحكام والاعتبارات والنسب فلا محذور منه، كما هو معلوم، وبناء عليه تجوز القسمة إلى الواجب والممكن، والقديم والحادث.
    وفكرة التوحيد كما هي عند أهل السنة لا تنافي تعدد الوجود والموجود، كما سيتضح، فتكثُّر الوجود والموجود، هو أساس التوحيد عند أهل السنة، بمعنى أن التوحيد إنما هو حصر الوجود الواجب في الله تعالى، ولا يتضمن ذلك نفي الوجود الجائز عن المخلوقات.
    والحقيقة أن مذهب وحدة الوجود من المذاهب المشكلة الخطيرة، وسوف أوضح جهة الخطورة في ما سيأتي من المباحث.
    وأساس هذا المذهب هو الاعتقاد بأنه لا وجود إلا لله تعالى، وأن المخلوقات لا وجود لها، وإنما ينسب إليها الوجود على سبيل المجاز، وأما في الحقيقة فلا وجود لها مطلقاً.
    وهذا هو المقصود من القول بوحدة الوجود، فلا موجود مطلقاً إلا الله تعالى، أو لا وجود مطلقاً إلا لله تعالى، وما يظهر لنا من ذوات موجودة، فإنه لا وجود لها غير عين وجود الله تعالى، فهي قائمة بعين وجوده عز اسمه، ومذهب وحدة الوجود يستلزم أن إثبات الوجود مطلقاً لغير الله تعالى إنما هو نوعٌ من أنواع الشرك، والتوحيد عندهم، إنما هو نفي الوجود عن كل ما سوى الله، واعتقاد أن كل السوى هو عين الله. فتكثر الوجود منفي عندهم، ويتبقى وحدة الوجود.
    وكما هو واضح، فإنه يوجد فرق عظيم بين اعتقاد أهل السنة وبين اعتقاد أهل الوحدة. وهذا ما سأوضحه في هذه الرسالة.
    ولا بد أولاً من أن أذكر السبب في تأليف هذه الرسالة، والغاية منها، فلا شكَّ أن كل فعل حكيم من أفعالنا الحادثة، له سبب وله غاية.
    إنني مع طول صحبتي لعلم التوحيد، ومحبتي له، ومعرفتي للعديد من تفاصيله، اتَّضح عندي علوُّ شان هذا العلم، وتبين لي لماذا سماه علماؤنا المحققون بعلم أصول الدين، وما ذلك إلا لعلو شأنه وعظيم خطره، في تصحيح الآراء، ونقد الأوهام، والتفريق بين الحق والباطل من الميول والأفكار، فهو العلم الحاكم على سائر العلوم، ومنه تستمد سائر العلوم أصولها الكلية، وتنبني عليه أهم قواعدها. ومنه عرفت أن الله تعالى أوجب على المكلفين نقد الآراء الباطلة، ونصرة الحق اليقين، ودفع أوهام المتوهمين، والرد على القائلين بغير علم.
    ولذلك لما رأيتُ في بعض الأزمان أن مذهب التجسيم انتشر بين الناس، وطالت مبادئه حتى عقول المثقفين، وحملة الشهادات العالية، فقد تمسكوا بمفاهيم مذهب التجسيم، حتى دون أن يعرف بعضهم أنهم كذلك، وانخدع كثير منهم بأسماء لامعة قدَّرَ الله تعالى أن تبرز لحكمة لا شك فيها، تفيد تمييز الصادقين عن غيرهم. فلما رأيتُ ذلك، لم يمنعني ما أحيطَ به هذا المذهب من أنصار وأعوان، وتنوع وسائلهم التي يملكونها في إشاعة مذهبهم، من أن أردَّ عليهم ببيان حقيقة اعتقادهم، بأسلوب لا أظن أحداً من أهل هذا العصر قام به، وكان هدفي من ذلك هو تمييز الحق عن الباطل، فمن اتبع الحق فإنما يتبعه عن بينة، ومن يتبع الباطل فلا حجة له.
    ولما كان سبيل الحق واحداً، وسبل الباطل متكثرة متعددة، لم يقتصر الباطل على مذهب التجسيم، بل كانت له صور متنوعة، وأشكال مختلفة، وكم كان عجبي عندما عرفت أنَّ مذهب وحدة الوجود لا يزال له في الوجود نصير وأعوان، وكثير من هؤلاء من المشايخ الذين ينتسبون في ظاهر كلامهم إلى الأشاعرة من أهل السنة، بل يصرِّحون أن مذهب وحدة الوجود مطابق لما يقوله السادة الأشاعرة، وكان أن مال إليهم بعضُ من أعرفه ويعرفني، والعجب أن كثيراً من أساليب المجسمة يتبعها هؤلاء في استجلاب الأعوان والأنصار، حتى وإن كانت ممنوعة شرعاً، أو مؤدية إلى مفاسد لا تعد ولا تحصى.
    وأكثر الذين يؤيدون وحدة الوجود إن لم يكن جميعهم، هم من الصوفية، أي المنتسبين إلى التصوف، ولا أقول إنَّ الصوفية كلهم يقولون بوحدة الوجود، لا بل كثير من الصوفية ينفون وحدة الوجود، ويرفضونها، ولكن غاية ما أقوله هو أن أكثر القائلين بالوحدة، من الصوفية.
    وأيضا فقد لاحظت أن كثيراً من هؤلاء يدعون في أول الطريق أنهم منتسبون إلى الأشاعرة، وأن عقائد الأشعرية موافقة لمذهب وحدة الوجود، وهذا ادعاء كبير لا دليل لهم عليه، وواقع الأمر أن الصوفية القائلين بوحدة الوجود (وليس كل الصوفية كذلك) إنما يدعون انتسابهم إلى الأشعرية، لأنهم يعرفون أن الأشعرية هم أكبر الفرق الإسلامية، والانتساب إلى أكبر الفرق الإسلامية أمر يحميهم من أعدائهم.
    وأعتقد أن من سنَّ لهم هذا الأمر إنما هو ابن عربي الحاتمي الصوفي المشهور، صاحب الفتوحات المكية، الذي جعل في صدر كتابه هذا مختصراً في العقائد وصفه بأنه "عقيدة العوام"، وهو عبارة عن ملخص لعقيدة الأشعرية، ولم يبتدئ ابن عربي كتابه هذا بهذا المختصر إلا ترويجاً له بين الناس، لا اعتقاداً خالصاً بهذه العقيدة.
    وقد انخدع بذلك كثيرٌ من الناس والعلماء فصاروا يتوقفون في مسائل كثيرة موجودة في كتب ابن عربي لملاحظتهم ابتداءه بهذه العقيدة في أول كتابه، فيقولون كيف يمكن أن يقول ابن عربي بعقيدة وحدة الوجود وقد ابتدأ كتابه بعقيدة الأشاعرة؟! وكيف يمكن أن يقول ابن عربي بالفيض الفلسفي وهو قائل بعقيدة الأشاعرة؟! وكيف وكيف... بل صار بعض العلماء إذا أراد أن يوضح عقيدة ابن عربي يكتفي بذكر هذا المختصر المشار إليه.
    وكل ذلك في نظري غير صحيح ولا موافق للتحقيق، لأن الصحيح أن ابن عربي وإن ابتدأ كتابه بذلك المختصر، إلا أنه سماه بعقيدة العوام، وعقبه بعقيدة الخواص وخاصة الخاصة، ثم إنَّ لابن عربي كتباً كثيرة غير هذه الصفحات التي ابتدأ بها "الفتوحات المكية"، وكثير من هذه الكتب فيها من العقائد ما يخالف ما صرح به في عقيدته تلك. فكيف يجوِّزُ الباحث لنفسه أن يجعل من هذا المتن المختصر حاكماًَ على كل تلك الكتب والكلمات المصرحة بالخلاف؟ إن هذا لعمري انحراف عن الحق.
    ولنرجع إلى وحدة الوجود، فهي لم تكن مقصورة على ابن عربي، بل قال بها غيره، ممن سبقه ومن تلاه.
    قلتُ سابقاً: إن هناك سبباًَ دفعني إلى الشروع في كتابة هذه الرسالة، وهو أن بعض الناس في هذا الزمان قالوا بمذهب وحدة الوجود أو مالوا إليه، ولما كنت أعلم أن هذا المذهب مخالف لعقيدة أهل الحق، أردتُ أن أحرر كلاماً ولو مختصراً في نقد ذلك، وبيان انحرافه عن الحق. وقد نظرت في واقع هؤلاء ورأيت أنهم يدورون على كلام ابن عربي أساساً، ويستأنسون بغيره من الناس، ولكن محورهم هو ابن عربي، وشراحه.
    ومن أكبر من صرح بوحدة الوجود على طريقة ابن عربي الشيخُ عبدُ الغني النابلسي، صاحب رسالة (إيضاح المقصود من وحدة الوجود)، وله كتاب آخر في نفس الموضوع، أسماه (الوجود الحق والخطاب الصدق).
    وقد عرفت أن هؤلاء أشاعوا الرسالة المسماة (بإيضاح المقصود) بينهم، واعتمدوها بيانا لعقيدة وحدة الوجود، وقد اغتر بعضهم بما فيها من كلام، وتابعهم الآخرون من غير فهم بل لمجرد تقليد ناشيء عن محبة شيخٍ وتوقيره، أو عن مجرد هوى نشأوا عليه، وصاروا يستخفون بكلام العلماء من أهل السنة يقدمون كلام هؤلاء على كلامهم.
    وهذه الرسالة كتبها الشيخ عبد الغني ليوضح فيها معنى وحدة الوجود الذي ينبغي على الناس –حسب رأيه- القول به، ويدافع عنها، ويقرر بعدة وجود أن مذهب الأشاعرة موافق لوحدة الوجود.
    وهذا الادعاء غريب، وقد استنكرتُه لما رأيته، وتعجبت كيف يصرح واحد مثل الشيخ عبد الغني بذلك الرأي والادعاء، ويتجاهل كثيراً من قواعد الأشاعرة لا تتوافق مع القول بحدة الوجود ولا مع مقتضياتها، بل تنافرها وتناقضها، وتخالفها أشد المخالفة.
    ولما رأيتُ الرسالة، أحببت أن أكتب عليها بعض التعليقات والنقود، وذلك بياناً للرأي الذي يوافق عليه علماء أهل السنة، وإرشاداً للقاصر، ودفعاً للمغتر بمثل هذا الكلام عن أن ينجرف وراء تأويلات فاسدة لقواعد التوحيد، كان ينبغي أن لا تنطلي على المبتدئين فضلاً عن أن يغتر بها من يعتبر نفسه مبرزاً في علم التوحيد.
    ولكن وإن كنت أقول ذلك، فإنني أعرف أن بعض المسائل خاصة في علم التوحيد قد تكون واضحة عند البعض، أشد الوضوح، وهي عينها مشكلة في أشد مراحل الإشكال عند غيرهم. وخصوصاً إذا كان الناظر قد تلبس أصلاً بمحبة وتقليد من هو قائل بمذهب وحدة الوجود، فكيف إذا كان يعتقد بولايته وبأنه خاتم الأولياء، أو أعظم العارفين وسيدهم، وكيف إذا كانوا يعتقدون أنه لا يقول بأمر إلا إذا أوحى الله تعالى به إليه، فهو لا يكتب شيئا إلا بأمر، وإلا بوحي، وإلا بكشف، فهو العارف الذي يدور على كلامه العارفون، فهو قطب الرحى وحجر الزاوية، وعمود الخيمة.
    وإذا كان القائل بذلك المذهب يعتقد أن المخالف لمذهب وحدة الوجود لم يترقَّ بعد إلى مراتب التحقيق، ولم تدخل في نفسه معاني الدين، ولم يخرج عن طور العقل الظاهر، فهو لا يعرف المعاني الباطنة للكلام، والعقل عند هؤلاء ليس إلا أوهاماً وخيالات دائرة على انخداع بأمور يستقيها الواحد من الحواس الظاهرة، فالعقل لا يفيد في المعارف الحقيقية، ولا بد من الكشف والمعاينة، حتى يتبين لك أن وجود الحق ليس غير وجود الخلق، فالوجود واحد، والحق واحد.
    إذا كان الناس القائلون بهذا المذهب يعتقدون بهذه الآراء، فكيف نرجو منهم أن يعيدوا النظر بما يقولون، وهم لا يعتبرون غيرهم يستحقون القول أصلاً، فالأغيار هم أصل الجهل، وهم أهل الظاهر المحتجبون عن الحق بالمظاهر، وهم المتعلقون بالرسوم وقد غابت عنهم الحقائق.
    والحقيقة أن المسألة أكبر من أن أدعي حلَّها بهذه الرسالة الصغيرة، ولكن ربما تكون هذه الرسالة فاتحة لبحوث أخرى تدور حول نفس الموضوع، تجلي أغواره، وتنبه الناس إلى المحذورات العديدة المترتبة على القول به، ولعمق الموضوع فقد أردت أن أهتم بمناقشة رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي فقط، والاهتمام ببيان المغالطات التي وقع بها، والمعاني الباطلة التي أودعها في هذه الرسالة، فهي وإن كانت صغيرة الحجة إلا أن فيها أصولا عديدة ينبني عليها مذهب وحدة الوجود. فربما إذا بينت خطأ بعض هذه القواعد، وأظهرت بوضوح مخالفة وحدة الوجود لمذهب أهل السنة الأشاعرة، ربما يكون هذا دافعاً للبعض لكي يعيد النظر في موقفه، ويحاول أن يتجرد من جميع العلائق الدنيوية التي يتلبس بها، لعل ذلك يكون مساعداً له للخروج من ظلم نفسه وغيره. فالناظر إذا لم يجرد نفسه ن العلائق الغريبة عن محل النظر، لا بد أن يقع في الغلط والمغالطة.
    وعلى كل حال، فهذه الرسالة دعوة إلى الإخوة المخالفين والموافقين لإعادة النظر لتحرير العقل والفكر من الأوهام العالقة فيها، ولا يضير هذه الدعوة أن يتخللها نقد صريح، ربما يجرح البعض، ويضايقه، ولكن هذا من لوازم النقد، فلا يعيبه، ومن وجد فيها خطأ أرجو منه أن يدلني عليه، ويصوبني فيه، فإنما العلم يتكامل بالنقد والمراجعة والتحرير الصريح المبني على القواعد العلمية المقررة عند المحققين من علمائنا.
    والله الموفق
    سعيد فودة
    وليس لنا إلى غير الله حاجة ولا مطلب

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:10 am

    تمهيد
    موضوع هذه الرسالة هو بيان المفاسد التي يشتمل عليها مذهب وحدة الوجود، وسوف أقسمها إلى قسمين رئيسيين:
    الأول: يحتوي على بيان مفهوم وحدة الوجود بأوجز شكل ممكن.
    والثاني: يحتوي على نقد رسالة الشيخ عبدالغني النابلسي (إيضاح المقصود من وحدة الوجود).
    وغايتي من هذه الرسالة أمران:
    الأول: بيان فساد مذهب وحدة الوجود.
    الثاني: بيان أن مذهب وحدة الوجود لا يمكن أن يكون متوافقاً مع عقيدة الأشاعرة، وأنه لا يمكن أن يكون الواحد من الناس قائلاً بوحدة الوجود، ويدعي أنه أشعري، وبعبارة أخرى، إن المذهب الاشعري لا يمكن أن يجتمع مع عقيدة وحدة الوجود.
    ولا أدعي أنني سأستوفي البحث في هذا الموضوع، بل مرادي إنما هو لفت أنظار القراء والمهتمين، إلى خطورة هذا المذهب، وبعض لوازمه الفاسدة، وذلك على حسب ما يتيحه الوقت والظرف.
    وأنا لا أشك أنه سيكون لي كلام تفصيلي وتام في بحث مختلف نواحي هذا المذهب والرد على القائلين به وبيان غاياتهم المختلفة في كتاب مستقل إن شاء الله تعالى، وحتى ذلك الحين أرجو أن يكون بحثي هذا محققاً لما رجوته منه.


    الباب الأول
    في بيان مذهب وحدة الوجود

    إن مذهب وحدة الوجود عويصٌ متعدد الأطراف، كثير الفروع والجوانب، ولكنه مع ذلك ينبني على أصول كلية، مشتركة، وسوف أبين هنا أهم هذه الأصول وأشير بعد ذلك إلى بعض الأمور المتفرعة على هذه الأصول، وإن كان القوم يختلفون في بعضها، وكان بعضهم يصرح بها وبعضهم يلوح.
    وسأحاول فيما يلي أن أوضح بأقرب صورة محور هذه القضية.
    عندما يقول الواحد: "أنا موجود"، فإنه يفهم ما معنى ذلك، وكذلك فإن السامع لهذا الكلام يفهم أيضا ما يريده المتكلم، وخلاصة هذا المعنى هو إثبات الوجود للذات، وعندما يقول آخر "أنا موجود"، فإن نفس السامع يفهم أيضا إثبات الوجود للآخر، ويفهم من ملاحظة العبارة الصادرة عن الأول، والعبارة الصادرة عن الثاني، أن وجود الأول غير وجود الثاني، وهذا الفهم هو الفهم الظاهر المتبادر إلى ظاهر العقل، وهو الموافق للغة، ولا يصح للواحد أن يقول إن المتبادر إلى الفهم، هو أن وجود الأول نفس وجود الثاني، نعم قد يقال إن وجود الأول، مثلُ الوجود الثاني، ولكن أن يقال إنه هو عينه، فلا، ويوجد فرق كبير بين أن يقال إن الشيء مثل الشيء، وبين أن يقال إنه هو عينه، فالمثلية لا تثبت إلا بالتغاير، بخلاف العينية.
    وكذلك فوجود الجبل مفهوم، ووجود هذا البيت مفهوم، ولا شك أن وجود الجبل غير وجود البيت. وسوف أوضح ذلك بشكل أكبر:
    إننا عندما نقول البيت موجود، فإن معنى هذه العبارة يتضمن إثبات "كون البيت موجودا"، وهذا لا بد أن يسبقه إثبات الوجود للبيت، بمعنى أنه لكي يشتق اسم لشيء، فيجب أن يكون الشيء موصوفا بأصل مصدر هذا الاسم، أي أصل مصدر الاشتقاق، وبعبارة أخرى، فلا بد من إثبات كون البيت له وجود، فالقول بأن البيت موجود، يسبقه الاعتقاد بإثبات الوجود للبيت.
    وكذلك فعندما نقول: إن الجبل موجود، فخلاصة هذا الكلام إنما هو إثبات وجود للجبل، بنفس الأسلوب السابق.
    فالحاصل من هذا الكلام أننا نثبت وجودا معيناً للجبل، ووجودا آخر للبيت، والمتبادر للذهن والعقل، هو أن الوجود الأول غير الوجود الثاني، فهاهنا وجودان اثنان، كل منهما غير الآخر في الخارج، أي في العالم الخارجي، وإن كان أصل المعنى المتبادر إلى ذهننا من إثبات الوجود للجبل مثل المعنى المتبادر إلى ذهننا من إثبات الوجود للبيت، بل ربما لا يبعد أن يقال إن المعنى المتبادر في الحالة الأولى هو عين المعنى المتبادر في الحالة الثانية.
    ولكن، هل كون المعنى المتبادر هو عينه في الحالتين أو مثله، هل يقتضي هذا أن يكون ما صدق عليه المعنى في الحالة الأولى هو عين ما صدق عليه المعنى في الحالة الثانية؟!
    إننا لا نشك لحظة في أن المصداق متغاير في الحالتين، وتغاير المصداق لا يستلزم تغاير المعنى المتبادر كما لا يخفى، ونحن لا نقصد بالمعنى الصورة الخيالية المستحضرة في الذهن عند قولنا الجبل موجود، بل لا نقصد أكثر من استحضار مفهوم الوجود ومعناه، لا الصورة الجبلية ولا الصورة البيتية، فهاتان الصورتان وهميتان، بمعنى أنهما حاضرتان في الوهم لا في العقل، ومقام الكلام هنا إنما هو العقل لا الوهم.
    نخلص من هذا الكلام كله، أن معنى الوجود مفهومٌ بداهة، أو يكاد يكون كذلك، ولا نريد بالمعنى حقيقة الوجود، بل لا نريد أكثر من مفهومه الحاضر في الذهن عند الحكم به على الماهيات كالجبل والبيت، وغيرهما.
    وأيضا، فإننا رأينا أن التغاير في الوجود المتحقق في الخارج هو الأصل، وهو المتبادر إلى الذهن، ولذلك قلنا إن وجود الجبل في الخارج غير وجود البيت في الخارج، وإن كان معنى الوجود لهما واحدا في الذهن. فالاتفاق في المفهوم لا يستلزم الاتفاق في المصداق، وهذا الفرق مهم جداً لا بدَّ من ملاحظته.
    وما مضى كان عرضاً سهلاً لما يقول به أهل السنة وأكثر الفلاسفة والمتكلمون في هذه المسألة.
    وأما غيرهم، فقد قالوا: إن ما يظهر لنا أنه تكثر في الوجود الخارجي فما هو كذلك، بل هذا محض الوهم، والواقع في الخارج ليس إلا وجوداً واحداً، ولكنه يظهر في صور كثيرة، بمعنى أن الموجود فعلاً إنما هو واحد حقيقي، لا كثرة وجودية فيه، وأما ما نلاحظه من كثرة، فإنما هي كثرة وهمية، أو إضافية اعتبارية. وهؤلاء هم القائلون بوحدة الوجود، وسوف ننقل بعض كلامهم فيما يلي لنبين مذهبهم كما يريدون هم.
    إن مذهب وحدة الوجود يعتبِرُ أن الوجود المتحقق هو الوجود الواجب فقط، ولا وجود للممكنات مطلقاً، فوجود الممكنات مستحيل في الخارج، والممكن المتحقق إنما هو تلبس الوجود الواجب بأحكام الممكنات. وهذا كما هو معلوم مخالف لما قرره أهل السنة من أن الممكن، إنما كان ممكناً، لأنَّ وجوده جائز، وعدمه جائز، أي إن العقل يمكن أن ينسب إليه الوجود، ويمكن أن ينسب إليه العدم، وأما على مذهب أهل الوحدة، فليس الأمر كذلك، لأن وجود الممكن عندهم مستحيل مطلقاً، فلا يمكن للعقل أن ينسب الوجود إلى الممكن.
    والحقيقة أن هذا القول عندهم مترتب على القول بأن الوجود لا يمكن أن ينعدم، ولا يمكن أن يطرأ، بمعنى أنه لا يمكن أن يحدث وجودٌ بعد عدم، ولا أن ينعدم وجودٌ، فلا يوجد خلقٌ للوجود، بل الخلق إنما هو تقدير للوجود عندهم، أي أن الخلق إنما هو تصوير الوجود بقدر وبصفة الممكن، وهذا الوجود الذي يظهر بصفة الممكن هو الوجود الواجب لأنه لا وجود غيره عندهم، ولذلك يقولون إن الله تعالى –وهو الوجود الواجب- تجلى لذاته بأحكام الممكنات، وإنما الثابت عندهم مجرد رسوم وتقييدات للواجب الوجود، ولا يوجد موجود واجب وموجود جائز بل لا موجود إلا واجب.

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:11 am

    الفصل الأول
    قواعد وضوابط عامة في وحدة الوجود

    سوف أورد فيما يلي بعض أهم الضوابط والقواعد التي يتميز بها مذهب وحدة الوجود، لكي أستعين بها فيما يأتي من المباحث.

    أولاً: الوجود الممكن والوجود الواجب:
    ينص أهل السنة على أن هناك وجودين: الأول وجودٌ واجبٌ وهو وجود الله تعالى، والثاني وجودٌ جائزٌ ممكن، وهو وجود العالم، وهو كل ما سوى الله تعالى من الموجودات. وهذا هو معنى تكثر الوجود الذي ألمحتُ إليه سابقاً، والوجود الممكن عندهم لم يكن ليوجد إلا بقدرة الله تعالى، وهو حادث، بمعنى أنه موجود بعد العدم، أي إنه موجود بعد عدم نفسه، وإيجاده هو فعل الله تعالى، ووجود العالم هو أثر إيجاد الله تعالى له، ونفس الإيجاد نسبة بين الله تعالى وبين العالم. وسوف يأتي بيان لهذا المعنى.
    وأما القائلون بالوحدة، فهم يعتقدون أنه لا وجود إلا الوجود الواجب، وهو وجود واحد لا يتعدد ولا يتكثر، وأما العالم فهو موجودٌ بنفس وجود الله تعالى، لا بإيجاده، بمعنى أن العالم إنما هو صورة ومظهر للوجود الإلهي، ولم يحدث وجود العالم بعد عدمه، بل الحادث عندهم إنما هو صورة العالم بعد عدمها، والصورة عين المظهر الإلهي، ولذلك يقولون إن الله تعالى تجلى لنفسه.

    ثانياً: الممكنات غير مستحيلة الوجود
    إنَّ أهل السنة لما قسَّموا الموجودات إلى الواجب والممكنة، قالوا: إن الممكنات غير مستحيلة الوجود، ومعنى ذلك أن أي أمر ممكن، فمعنى إمكانه هو أنه يمكن وجوده ويمكن عدمه، وعند وجوده يجوز عليه الاتصاف بالصفات المتقابلة، كالحركة والسكون إن كان جسماً، أو الصفات المتقابلة إن لم يكن جسماً، وهذا على قول من قال بإمكان وجود غير الأجسام. فالملائكة عند هؤلاء ليسوا بأجسام ويجوز عليهم الاتصاف بالصفات المتقابلة فليس كل الملائكة على نفس الصورة.
    ولكن القائلين بمذهب وحدة الوجود، لا يقولون بإمكان وجود الممكن، بل يقولون باستحالته، وإنما الممكن ينحصر بأحكامه، وماهيته، فالممكن عندهم مستحيل الوجود، وأما ماهيته، فمعنى إمكانها إنما هو قدرة الله تعالى على التلبس والظهور بأحكامها، فهو الظاهر في المظاهر، فالجسم مثلاً ليس موجوداً بوجود ممكن، فالماهية الجسمانية ظاهرة بعين الوجود الإلهي، فالله تعالى هو الذي تصور بأحكام الجسمية من الطول والعرض والارتفاع والحركة، والصورة الجسمانية الخاصة.
    ومثال هذا الكلام الصورة الظاهرة على شاشة التلفزيون، كيف تظهر صورة بعد أخرى على نفس الشاشة، فالشاشة نفسها مظهر -أي المحل الذي يظهر فيه- تلك الصور المتلاحقة، واحدة بعد الأخرى، فلو رأينا سيارة أو رجلاً في التلفزيون، فلا يوجد لا رجل ولا سيارة فيه، بل الموجود فيه إنما هو صورة الرجل والسيارة، وأحكام الرجل والسيارة، فالأشعة التلفزيونية تتجلى بها هذه الصور للأعين، ولا حقيقة وراء نفس الصور إلا الشعاع، فالشعاع واحد، ولكنه يظهر بمظاهر مختلفة.
    وكذلك فلا حقيقة وراء الموجودات المتكثرة إلا حقيقة واحدة وهي الوجود الإلهي، فهو الظاهر في المظاهر، ولا وجود خاص لنفس العالم، بل الوجود كله لله تعالى، ولكن الله تعالى أظهر صورة العالم في ذاته، أي إنه تجلى بصورة العالم، وتجلى بصورة الممكنات، وهذه الصور هي التي يسمونها بالقيود التي إذا تجرد الواحد عنها وتخلص منها بالمجاهدات عرف أنه هو، لا غيره، أي إذا استطاع الإنسان أن يتجرد من ملاحظة هذه الصور، فإنه سيعرف أن حقيقة وجودها الذي وجدت هي به، إنما هو عين وجود الله تعالى لا غير وجود الله تعالى.

    ثالثاً: الوجود العيني والوجود العرضي
    يقسم متكلمو أهل السنة الموجودات الحادثة إلى أعيان وأعراض.
    والأعيان -جمع عين- إشارة إلى الموجود الذي لا يحتاج في قيامه إلى محل، وذلك كالجسم، فهو قائم بنفسه.
    وأما الأعراض فهي الأمور التي وجودها في نفسها هو عين وجودها في غيرها، والعرض لا يقوم بنفسه فاللون لا وجود له إلا في وجوده في الجسم، ولا وجود له في الخارج إلا كذلك، فالعرض محتاج إلى الجسم لكي يتحقق له وجود.
    والحقيقة أن الأعراض لا وجود لها في الخارج بوجود استقلالي أصلي بل تبعي، فقط على أنها حالات للجسم، أو أمور تطرأ عليه في نفسه، أو أنها تغيرات حاصلة فيه، فحصولها في الجسم يستلزم حصول تغيرات على نفس الجسم.
    فالأعراض والأجسام (الأعيان) ثابتة في الخارج، وكون الأجسام لا تحتاج إلى محل لتقوم فيه، كالأعراض عندما تحتاج إلى الجسم في قيامها، أقول كون الأجسام كذلك لا يستلزم أنها لا تحتاج إلى علة لكي توجد، ولا يستلزم كونها لا تحتاج إلى فاعل في وجودها، فيوجد فرق إذن بين الاحتياج إلى المحل وبين الاحتياج إلى الفاعل، فمع أن الجسم لا يحتاج إلى محلٍّ ليقوم فيه، ولكنه يحتاج إلى الفاعل لكي يوجد، فهو محتاج إلى العلة الفاعلية وليس محتاجاً من حيث هو جسم إلى علة قابلية، أي ليس محتاجاً إلى محل لكي يوجد فيه، وأما العرض فهو محتاج إلى الفاعل والمحل، فاحتياج العرض إلى غيره أشج من احتياج الجسم والعين.
    ولا يصح أن يقوم الجوهر (العين) بعرض، ولا أن يقوم بجوهر آخر، بمعنى أن الجوهر لا يقوم في جوهر آخر، كم يقوم العرض في جوهر غيره.
    هذا هو خلاصة قول علماء السنة في هذه المسألة.
    وأما القائلون بمذهب وحدة الوجود، فلا يوجد عندهم إلا موجود واحد قائم بذاته، أي غير محتاج إلى محل ليقوم فيه، وهو واجب الوجود، وأما ما نلاحظه في العالم من أجسام وأعراض، فإنما هي صور الأجسام والأعراض القائمة بذات الباري جل، فكما تجلى سيدنا جبريل لسيدنا محمد عليه السلام بصورة آدمي فكذلك يتجلى الله تعالى عندهم بصورة العالم بما فيها من تنوع وتقييدات، ولكن يبقى هو هو، وليس هو عين العالم، لأن العالم هو محض الصور، والله تعالى محض الوجود، فلا عالم حقيقي فعلاً عندهم، بل إنما هو الله تعالى، فحقيقة وجود العالم إنما هو عين وجود الله.
    ولا يعني هذا أنهم لا يفرقون بين الجوهر والعرض، بل يفرقون، ولكن بناء على هذا الأصل الكبير القائلين به، وربما نشير إلى كيفية تفريقهم بين الجوهر والعرض لاحقاً.

    رابعاً: لا وجود إلا لله تعالى
    هكذا يعتقد القائلون بمذهب وحدة الوجود، لأن العالم عندهم ليس له وجود، بل إنما هو صورة وتجلٍّ لوجود الله تعالى، فلا وجود إلا له، عز اسمه.
    وأما أهل الحق، فقد اتضح مما سبق أنهم قائلون بتكثر الوجود، ومع ذلك فإن وجود العالم مخالف في حقيقته لوجود الله تعالى، فلا اشتراك إلا في الاسم، وأما الحقيقة فلا. فأين الوجود الحادث من الوجود الواجب ؟

    خامساً: الشرك والإيمان
    الإنسان يكون مشركاً عند القائلين بوحدة الوجود إذا قال بوجودٍ سوى وجود الله تعالى، وما ذلك إلا لأن حقيقة الله تعالى عندهم، هي محض الوجود، فلا وجود إلا لله، والله عين حقيقة الوجود، ولهذا السرِّ فإنهم ينفون الوجود عن كل ما سوى الله تعالى، فكل السوى عدم، وإطلاق الوجود على العالم إطلاق مجازي محض، وليس حقيقياً، فلما كان حقيقة الله عندهم هي الوجود، فلا يجوز أن ينسب الوجود إلى غير الله تعالى.
    وأما أهل السنة، فإنهم لا يقولون بأن وجود العالم مجازي، بل إنه وجود حقيقي، ولكنه مع ذلك مخالف لوجود الله تعالى في الحقيقة، فلا اشتراك في الحقيقة، ولذلك لا يلزم الشرك عندما نثبت الوجود للعالم، وإطلاق اسم الوجود على العالم إنما هو إطلاق حقيقي، من باب إطلاق الأسماء المشتركة على معانيها.
    ولكن إذا دققنا النظر في ما ذكرناه سابقاً، فإننا نعلم الفرق بين وجود الله تعالى، وبين وجود العالم.
    فإن الله تعالى وجوده لذاته وبذاته، وأما العالم فإن وجوده بذاته ولكن لغيره، ومعنى ذلك أن العالم ليس عرضاً حالاً في غيره، ولذلك فهو موجود بذاته، ولكنه مع ذلك موجود بتأثير من غيره، فإنَّ علة وجوده ليس عين ذاته، لأن عين ذاته، لا يجب وجوده عقلاً، بل العقل إنما يحكم على عين ذات العالم بالإمكان، ومعنى الإمكان كما قلنا سابقاً، إنما هو صحة نسبة الوجود ونفيه عنه. ولما كان سبب وجود العالم هو غيره، وهو قدرة الله تعالى، أي أن الله تعالى أراد إيجاد العالم فوُجِدَ العالم، فما دامت قدرة الله تعالى متعلقة بإيجاد العالم فإن العالم يبقى موجوداً، لأن تعلق قدرة الله تعالى بالعالم هو علة وجود العالم، وما دام العالم موجوداً، فإن علته وهي تعلق القدرة به، يجب بقاء وجودها، أو يمكن أن نقول، إنه ما دامت القدرة متعلقة بالعالم، فإنه يبقى موجوداً، ولكن إذا انقطع تعلق القدرة الإلهية بالعالم، انعدم العالم، فإنه لا يستحق الوجود لذاته.
    ولما لاحظ بعض علماء السنة هذا الفرق بين وجود العالم وبين وجود الله تعالى، أطلقوا على العالم أن وجوده مجازي، بهذا المعنى، ولم يريدوا أن العالم غير موجود أصلا، بل إنهم لما لاحظوا قوة وجود الله تعالى بالمقارنة مع وجود العالم، صار وجود العالم بالنسبة إلى وجود الله تعالى كأنه وجود مجازي، لأنه لا يقوم إلا بإيجاد الله تعالى، كما لا يقوم المجاز إلا بناء على لفظ له معنى حقيقي.
    فإن أهل السنة إذا أطلقوا القول بأن العالم له وجود مجازي لم يريدوا إلا هذا المعنى، وأما القائلون بوحدة الوجود، فإنهم عندما يطلقون على العالم أن وجوده مجازي، فإنهم يريدون حقيقة هذا اللفظ. فإطلاق أهل السنة اسم المجاز على العالم مجاز، وإطلاق أهل الوحدة اسم المجاز على العالم حقيقة عندهم.
    والإنسان يكون مشركاً عند أهل الوحدة ما دام معتقداً بوجود العالم، ولكنه يصل إلى أعلى مراتب التوحيد إذا اعتقد بعدم العالم، وان وجوده هو عين وجود الله تعالى.
    وأما أهل السنة فإن الإنسان يكون مشركاً عندهم، إذا اعتقد استقلال العالم بالوجود لذاته، وأما إذا اعتقد أن العالم موجودٌ بوجود مغاير لوجود الله تعالى، ولكن بقاءه كذلك متعلق بتعلق قدرة الله تعالى فإنه يكون قد وصل إلى التوحيد الحقيقي.
    ولذلك فإن التوحيد عند القائلين بمذهب وحدة الوجود معناه: لا وجود إلا لله تعالى، فهم ينفون وجود كل ما سوى الله تعالى.
    وأما توحيد أهل السنة، فإنه يتم بإثبات أن كل الأفعال فإنما هي لله تعالى.
    ولا يصح الاعتقاد بعدما مضى بأن أهل السنة يلزمهم على مذهبهم القول باشتراك الله تعالى مع خلقه بحقيقة الوجود، أي من حيث مصداقه، فإنه لا يقول ذلك إلا من جهل مذهب أهل السنة، أو أراد ترويج مذهبه.

    سادساً: الوصول إلى الله تعالى
    التصوف عند أهل السنة عبارة عن مجاهدة للنفس ورغباتها المخالفة للدين الإسلامي ولشريعة الله تعالى، وليس كل رغبات النفس مخالفة للشريعة، وهو أيضاً محاولة دائمة لترويضها على شرع الله تعالى، والترقي بها عن طريق التزامها بالشريعة إلى أعلى المراتب والكمالات اللائقة بالوجود الإنساني.
    فالتصوف على هذا هو خلاصة ورأس التدين من حيث إنه فعل للإنسان المكلف، وليس من حيث إنه عقيدة، فلا عقيدة خاصة بالتصوف، بل إنه غاية الالتزام بالدين.
    فعندما يمارس علماء أهل السنة من الصوفية المجاهدات، فإن غايتهم هو تكميل ذواتهم، لا إفناؤها، وغايتهم إنما هي تقوية ملاحظتهم لاحتياجهم إلى الله تعالى في كل حركة من الحركات وفي كل سكنة من السكنات.
    فصوفية أهل السنة مع بقاء ملاحظتهم لوجود أنفسهم، إلا إنهم لا يزالون يترقون في الإحساس بشدة احتياج هذا الوجود الذي منحهم إياه الله تعالى إلى إمداد الله تعالى وإلى قوته، فالصوفية عند أهل السنة هم أشد الناس إحساساً بالاحتياج إلى الله تعالى، وذلك مع ملاحظتهم لوجود أنفسه ذلك الوجود المحتاج الحادث، وهذا هو السر في صعوبة الترقي على عامة الناس، والمنحرفين في علم التوحيد، فكيف يترقى المنحرف عن أصول الدين في هذه المراتب وهو يعتقد أنه مستغن في وجوده عن الله تعالى ؟ وما فائدة المجاهدة، إذا كان يعتقد أنه عين الذات الإلهية، وأنه لا وجود له ؟
    وأما القائلون بوحدة الوجود، فإن التصوف عندهم طريق إلى الاعتقاد بفناء ذواتهم فناء فعلياً، وعدم وجودهم بوجود مغاير لوجود الله تعالى، بل وجودهم عندهم هو عين وجود الله تعالى. والمجاهدات عندهم طريق إلى الانعتاق عن التقيدات الوهمية التي يتوهمون بها أنهم موجودون، فهذه القيود الحادثة عندهم، سبب في اعتقاد عامة الناس بأنهم موجودون، ولكن الخواص عندهم يعتقدون أن وجودهم هذا ما هو إلا وجود مجازي، متوهم، فهم في مجاهداتهم يحاولون أن يترقوا عن أوحال الوهم، ويصلوا إلى أنهم عين الذات لإلهية، أو بعبارة أصح، يصلوا إلى أن وجودهم هو عين وجود الذات الإلهية.
    ومن هنا برز عندهم مصطلح العوام والخواص، وإن كان مستخدماً عند أكثر الفرق الإسلامية، إلا أنهم استعملوه بمعنى خاص، فالخواص عندهم هم من اعتقدوا أنه لا وجود إلا لله تعالى، والعوام هم من ساروا مع أوهامهم، واعتقدوا بوجود ذواتهم بوجود غير وجود الله تعالى.
    والقائلون بالوحدة عندما يعتقدون بذلك، فهم لا يريدون فقط نفي الاعتقاد بوجود مستقل في القيام عن وجود الله، بل يريدون نفي كل وجود مغاير لوجود الله تعالى. وفرق عظيم بين نفي اعتقاد استقلال الوجود الحادث عن وجود الله تعالى، وبين نفي الوجود الحادث أصلاً. فلا وجود حادثاً مطلقاً عندهم، بل كل الوجود قديم، وهو هو وجود الله، الذي ظهر لذاته بأحكام الممكنات.
    فالحادث عندهم هو فقط ظهور أحكام الممكنات بوجود الله تعالى، وليس ظهور عين الممكنات، فهذا مستحيل عندهم.
    فالوصول عند الصوفية القائلين بوحدة الوجود عبارة عن ظهور أن وجودنا هو عين وجود الله تعالى، فهو ظهور اتحاد وجودنا بوجود الله تعالى، ولكن لا بعد تعدد وتكثر، بل نفي الكثرة أصلاً، واعتقاد أنها مجرد وهم.
    وأما الوصول عند صوفية أهل السنة فهو الاعتقاد بالافتقار إلى الله تعالى في كل شيء، مع بقاء ملاحظة أن وجودنا مغاير لوجود الله تعالى. فلا اتحاد مطلقاً عند أهل السنة.
    والقائلون بوحدة الوجود ينفون الاتحاد الناتج عن اثنين، لأنَّ الاثنينية عندهم منفية، والتكثر وهم محض، ولذلك أيضاً ينفون الحلول، لأن الحلول سريان شيء موجود في شيء موجود آخر، ولا موجود إلا الله عندهم.
    ولذلك فلا يبعد عندهم نفي الحلول والاتحاد، بل ذلك واجب، لأن الحلول والاتحاد لا يصدقان إلا بعد الاعتقاد بالتكثر وتعدد الوجود، فكيف يقال بذلك والوجود واحد عندهم. فنفي الحلول والاتحاد ليس دليلاً على براءة النافي من وحدة الوجود، إلا بعد بيان مراده وعلة نفيه.
    بينما أهل السنة ينفون الحلول والاتحاد ويقولون في نفس الوقت بتكثر الوجود وتعدده، فالوجود الجائز هو غير الوجود الواجب. ولكن أهل السنة ينفون الحلول والاتحاد لاستحالة اتحاد الله تعالى بمخلوقاته، واستحالة سريانه وحلوله فيها، وليس علة النفي نفيهم لوجود المخلوقات كما هو زعم القائلين بوحدة الوجود.

    سابعاً: لا فعل إلا لله تعالى
    لقد قلنا إن أهل السنة يقولون إن العالم موجود، والله تعالى موجود، ولا اشتراك بين وجود الله تعالى ووجود العالم، كما مرَّ، وهذا العالم هو أثر فعل الله تعالى، أو عين فعله، وذلك مع كون وجوده غير وجود الله تعالى، فهم يقولون إنه عين فعل الله تعالى أو أثر فعله جل شأنه.
    وسوف نوضح ذلك زيادة توضيح فنقول: إنا إذا نظرنا إلى الله والعالم، وتأملنا في النسبة بينهما، وأدرنا الكلام على هذه الثلاثة؛ ينتج إمكان قسمة المذهب الإسلامية على النحو التالي:
    إما أن يقال بتكثر الوجود أو وحدته، فعلى القول بكثرة الوجود، فههنا ثلاثة أمور الله، والعالم، والنسبة بينهما، والعالم عبارة عن وجود + ماهية، فتصبح الأمور المقابلة لله تعالى ثلاثة، الوجود والماهية والنسبة، فالسؤال هنا عن فاعلية الله تعالى بماذا تتعلق.
    فجمهور أهل السنة وبعض المعتزلة يقولون إن الله تعالى فاعل بالإرادة للماهيات والوجود الخاص والنسبة لازمة لذلك، لأن النسبة لازمة على ضرورة الربط بين قدرة الله تعالى وبين أثر القدرة الذي هو الوجود المتعين للعالم. وهذا القول مبني على أن الله تعالى جاعل للماهيات أيضاً.
    وجمهور المعتزلة وبعض أهل السنة القائلين بعدم مجعولية الماهيات، قالوا إن الله تعالى فاعل بالإرادة للوجود الخاص للعالم، وبالتالي تلزم النسبة الرابطة بين العالم وخالقه، وذلك لعدم استغناء العالم بعد وجوده عن فاعله.
    ولكن الفارق بين أهل السنة والمعتزلة هنا أن المعتزلة يحكمون الصلاح والأصلح وأهل السنة لا، والإرادة عند المعتزلة ليست صفة لله بل فعله، وأما أهل السنة فالإرادة صفة له جل وعلا.
    وأما االفلاسفة فيقولون أيضاً بأن الوجود الخاص أثر لله واجب الوجود، ولكن على سبيل التعليل لا على سبيل الفعل، وهذا مبنيٌ على قولهم بأن الله بذاته علة لوجود العالم، وعلى نفي الإرادة.
    وأما من قال بعدم تكثر الوجود، فهم يبنون قولهم هذا على استحالة وجود العالم بوجود خاص به، مغاير لوجود العالم، فيقولون: إن ماهية العالم لها أحكام، والماهيات ليست مجعولة لله تعالى، فالله تعالى ليس بفاعل إلا للنسبة، والنسبة هذه ليست بين طرفين كما في الأقوال السابقة، لأنه لا وجود إلا وجود الله تعالى، بل هي نسبة من طرف واحد، ويسمونها نسبة إشراقية، لأن الله تعالى تشرق ذاته بالنسبة، ثم إما أن تكون هذه النسبة عدمية محضة بناء على تواطؤ وجود الواجب الواحد، أو انتزاعية قائمة على أن الوجود الواجب الواحد مشكك، قابل للشدة والضعف.
    فالله تعالى ليس بفاعل إلا للنسبة عند القائلين بوحدة الوجود، وهذه النسبة قائمة بذاته عز وجل، وهذا هو معنى قولهم إن الله تعالى تجلى بأحكام الممكنات، أو بأحكام الماهيات، وهكذا يفسرون قوله تعالى كل يوم هو في شأن، بمعنى أن الشؤون تظهر بذاته تعالى كل يوم وكل ساعة، وكل آن من الآنات.
    ففعل الله تعالى عند أهل السنة هو العالم من حيث هو موجود في الخارج، والنسبة لازمة له، فإن لاحظوا مجموع هذا المعنى، يقولون إن العالم هو أثر قدرة الله تعالى، وإذا لم يلاحظوا النسبة الثابتة قالوا إن العالم هو عين الفعل، ولكنهم على كل الأقوال لا يقولون إن الفعل قائم بذات الله تعالى.
    وأما القائلون بوحدة الوجود، فلما انتفى وجود العالم الخارجي عندهم، ولم يبق بعد إلا النسبة، فالله تعالى ليس فاعلاً إلا للنسبة، والنسبة هذه قائمة بعين وجود الله تعالى، ولما كانت النسبة ليست موجودة بنفسها، فلا وجود مستقل للنسبة عن ما تقوم هي به، ولما لم يكن ثمة موجود إلا الله تعالى، فالنسبة قائمة بعين ذاته جل وعلا.
    ولهذا يعبرون عن ذلك بأن العالم موجود بوجود الله تعالى، ولا يقولون إن العالم موجود بإيجاد الله تعالى، بل هو قائم بعين وجود الله تعالى. لأن العالم ليس إلا النسبة فلا وجود له، وليس العالم إلا مجرد الانتساب لله تعالى، ولذلك فالمخلوقات عندهم معدومة حقيقة، وموجودة مجازاً لتلبسها بوجود الله تعالى الذي ليس وجوداً لها.
    ولذلك يعتقدون أن الواحد من المخلوقات إذا تجرد عن قيوده التي هي عين النسبة، رأى أن وجوده هو عين وجود الله تعالى، ولكن كان ينبغي أن يقولوا أن هذه القيود هي قيود للذات الإلهية ونسب لاحقة لها، ولا يقولوا أنها قيود للمخلوقات، لأنه لا وجود للمخلوقات قط، ومن ليس له وجود فكيف يتجرد عنه.

    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:12 am

    الفصل الثاني
    الرد على رسالة النابلسي
    المسماة
    (إيضاح المقصود من وحدة الوجود)

    إن الشيخ عبد الغني النابلسي، ألـَّف العديد من الرسائل والكتب في العديد من المسائل والمواضيع، في الفقه والحديث والتصوف والتوحيد، ولا يخلو كتاب من كتبه من إشارات إلى عقيدة وحدة الوجود، فهو يصرح بها ولا يلوح، وينتهز الفرصة بعد الفرصة في سبيل بيان هذه العقيدة ونصرتها.
    وقد كتب كتاباً مطولاً في توضيح معنى وحدة الوجود ونصرتها وإثباتها، سماه (الوجود الحق والخطاب الصدق)، وألف رسالة مختصرة لنفس الغاية سماها (إيضاح المقصود من وحدة الوجود)، في صفحات معدودة.
    ونحن سوف نخصص هذا الفصل لنقد ما أودعه الشيخ عبد الغني النابلسي في رسالته، ونعتمد في ذلك على تحليل عبارته، بناء على ما سبق بيانه من قواعد وأصول، وبناء على ما وضحه أئمة القائلين بوحدة الوجود في كتبهم ورسائلهم وأورادهم وأشعارهم، وإشاراتهم وكلماتهم المرسلة المنقولة عنهم.
    سبب تأليف الرسالة
    لقد حدد النابلسي هدفه من تأليف الرسالة فقال ص6: "هذه رسالة عملتها في تحقيق المعنى المراد عند أهل الله تعالى المحققين الأمجاد، بإطلاق وحدة الوجود، وقولهم: لا شيء مع الله تعالى موجود، وبيان صحة هذه المقالة، ونفي ما عداها من ضلالات أهل الغواية والجهالة، والحكم على ما يخالف ذلك بالاستحالة".
    النابلسي يقرر في هذه المقدمة أن سبب تأليفه للرسالة هو تحقيق معنى وحدة الوجود، ويعترف أن هذه العقيدة صحيحة، وأن ما عداها إنما هو ضلالات، ومن يخالفها فهو من أهل الغواية والجهالة، بل إن كل ما يخالفها من العقائد فإنما هو مستحيل، ثم ينسب هذه العقيدة إلى المحققين الأمجاد من أهل الله تعالى، وسوف نعرف أسماء بعض هؤلاء من النابلسي كما سيذكرهم بعد قليل.
    والنابلسي يقرر أن ملخص عقيدة وحدة الوجود هو (لا شيء مع الله تعالى موجود)، وهذا هو معناها الذي سبق أن أشرنا إليه في الفصول السابقة، وهذا المعنى هو المعنى الباطل المخالف لعقيدة أهل السنة، كما قلنا، ولكن النابلسي يعكس الوضع هنا.
    والذي لا بد من ملاحظته هو أن الصوفية القائلين بوحدة الوجود لا يعترفون لعلماء التوحيد بأنهم هم الذين يقررون العقائد الصحيحة، بل يعتبرونهم مجرد متكلمين بالباطل، ويتهمونهم بأنهم لا يستندون إلا إلى الجهل، ويصفونهم بأنهم محجوبون، والحجب هنا في اصطلاح الصوفية ناشئ عن أن المتكلمين يعتقدون بكثرة الوجود، أي إنهم يقولون إن الله تعالى خلق العالم الموجود بقدرته، وهذا يلزم منه تكثر الوجود والموجود، وإن كان العالم لا يمكن استمرار وجوده إلا بإذن الله تعالى وتعلق قدرته تعالى بإيجاده.
    فمن يعتقد أن العالم موجود، فإنه عند أهل الوحدة محجوب عن الحقيقة، والحقيقة عندهم هي أن الله تعالى لم يخلق شيئاً من العدم، ولم يوجد العالم من عدم، بل لم يوجد شيئاً مطلقاً. وإذا كانوا يعتقدون بهذا الأمر فالطبيعي عندهم أن القائل بالكثرة في الموجودات يكون محجوباً عن الحقيقة.
    ولكن اعتبارهم ووصفهم للمتكلمين بهذه الأوصاف لا يقلب الحق باطلاً، فالكفار كانوا يقولون عن سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام أنه صابئ، والنصارى لم يعترفوا بنبوة النبي، واليهود ينكرونها، والشيوعيون كانوا ينكرون الإسلام، ويقولون: إن المسلمين جاهلون لاعتقادهم بوجود الله تعالى، والصوفية هنا يقولون إن المتكلمين جاهلون لاعتقادهم بوجود العالَم، وكلٌّ يُغَنِّي على لَيْلاه.

    القائلون بعقيدة وحدة الوجود
    عدَّدَ النابلسي بعض أسماء القائلين بعقيدة وحدة الوجود، وأشهرهم، وذلك ليعزز عند القارئ أن هذه العقيدة صحيحة لشهرة القائلين بها، وهذا الأساس لتدعيم المذاهب ليس كافياً على إطلاقه كما استعمله النابلسي، وسوف نبين ذلك فيما يلي، ولكن نذكر أولاً عبارة النابلسي في هذا المقام لكي نستطيع تحليلها ونقدها.
    قال الشيخ عبدالغني النابلسي في ص6: "اعلم أن هذه المسألة وهي مسألة وحدة الوجود، قد كثَّرَ العلماء فيها الكلام قديماً وحديثاً، وردها قوم قاصرون غافلون عن معناها محجوبون، وقبلها قوم آخرون عارفون محققون، ومن ردها لعدم فهم معناها عند القائلين بها، وتوهم منها المعنى الفاسد فلا التفات لرده كائناً من كان لصده عن الحق، وإنما رده في الحقيقة لأمر واقع على فهمه من المعنى الفاسد، لا على هذه المسألة، فهو الذي صور الضلال ورده، وأما القائلون بها فإنهم العلماء المحققون والفضلاء العارفون أهل الكشف والبصيرة الموصوفون بحسن السيرة وصفاء السريرة، كالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، والشيخ شرف الدين بن الفارض، والعفيف التلمساني، والشيخ عبد الحق بن سبعين، والشيخ عبدالكريم الجيلي، وأمثالهم، قدس الله أسرارهم، وضاعف أنواهم، فإنهم قائلون بوحدة الوجود، هم وأتباعهم إلى يوم القيامة إن شاء الله تعالى. وليس قولهم بذلك مخالفاً لما عليه أهل السنة والجماعة، وحاشاهم من المخالفة، وغنما المنكر عليهم وعلى أمثالهم أنكر من قصور فهمه وقلة معرفته باصطلاحهم وعدم علمه، فإن علومهم مبنية على الكشف والعيان، وعلومهم غير مستفادة من الخواطر الفكرية والأذهان وبداية طريقهم التقوىوالعمل الصالح، بداية طريق غيرهم مطالعة الكتب"
    هذه الفقرة فيها عدة دعاوي:
    الدعوى الأولى: أن الكلام في عقيدة وحدة الوجود قديم عند العلماء.
    الدعوى الثانية: أن الذين ردوا ورفضوا عقيدة وحدة الوجود هم المحجوبون، ومن قبلها وقال بها فهم العارفون المحققون.
    الدعوى الثالثة: يوجد معنى صحيح لوحدة الوجود ومعنى آخر فاسد.
    الدعوى الرابعة: القول بوحدة الوجود لا يخالف قول أهل السنة.
    وسوف ندير الكلام على هذه الدعاوي على الترتيب المذكور.

    لمحة عن تاريخ وحدة الوجود
    إن الكلام عن كون عقيدة وحدة الوجود مذهباً له تاريخ في مذاهب المتقدمين من الفلاسفة في الشرق والغرب، لا إشكال فيه، ولكن القول بأنه كان مذهباً مرضياً عنه بين المسلمين في العصور المتقدمة، محل إشكال كبير، وهو ادعاء مجرد عن الدليل، بل مخالف له.
    ولينظر هل قول النابلسي بأن "الكلام فيها قديم عند العلماء"، يسلم له؟! وهل يريد منه القول بأنهم كانوا يتكلمون في وحدة الوجود على سبيل القبول لها.
    فإن كان يريد ذلك فهو ليس بصحيح، بل الصحيح أن العلماء كانوا يتكلمون في وحدة الوجود على سبيل الرد والنقض، ولم يوافقوا على صحة هذه العقيدة، بل إن الصحيح أن حقيقة مذهب وحدة الوجود المتكاملة، إنما ظهرت متأخرة بين المسلمين، أي إن التصريح بها ظهر بينهم متأخراً، ولم يكونوا يتكلمون بها صراحة في الأزمان المتقدمة.
    ثم إن بعض من أشار إلى وحدة الوجود وإلى القول بها من المتقدمين، حكم عليه كثير من العلماء المتقدمين بالانحراف والزندقة، ومنهم الحلاج، وقصته مشهورة معروفة، وقد يستغرب البعض من نسبتنا القول بوحدة الوجود إليه، والمشهور أنه كان قائلاً بالاتحاد والحلول، ولكن هذا الاستغراب ينحل بمجرد معرفة وقراءة كلماته نفسها، ثم فهمها. وقد يقول البعض إن الحلاج لم يكن قائلا بوحدة الوجود، بدليل وجود كلام له موافق في كثير من ظاهره لكلام أهل السنة، والجواب، كما أنه يوجد له كلام يحتمل موافقة أهل السنة، ولكنه يصح حمله على عقيدة وحدة الوجود، ولما وجد له كلام أصرح في القول بوحدة الوجود، قلنا بظهور اعتقاده بوحدة الوجود. والأمر يحتمل النظر.
    وأيضا إذا تنبهنا إلى أن مصطلح وحدة الوجود لم يظهر إلا في القرون المتأخرة، وعلى أقل تقدير القرن السادس والسابع، وقبل ذلك كانت توجد إشارات إلى هذا المذهب، فالذين كانوا يقولون به لم يكن عندهم اسم له، والذين ردوا عليه، أطلقوا عليه أقرب اسم معروف لديهم، وأقرب مذهب إلى وحدة الوجود هو الحلول والاتحاد، بفارق أن الحلول والاتحاد يسبقه التكثر في الوجود، بخلاف وحدة الوجود، والنتيجة بينهم واحدة، وهي أن الخلق عين الخالق، وأيضا عدم التكثر في الوجود، بل تصبح أنت هو، وهو أنت.
    فجاء إطلاق اسم الحلول والاتحاد على وحدة الوجود من هذا الجانب لا غير، فتصبح النتيجة أن بعض من ردَّ على القائلين بالحلول والاتحاد، فالحقيقة أنه ردّ على وحدة الوجود.
    فالقول إذن بأن وحدة الوجود كانت مقبولة مشهورة عند العلماء المتقدمين، قول باطل، بل ادعاء قبولها بين العلماء المتأخرين أيضاً مردودة، فأكثر المتأخرين ردوها، كما ردها أكثر المتقدمين.




    هل المعارضون لوحدة الوجود محجوبون
    الحقيقة أن القول بأن من نفى وحدة الوجود محجوبون، وأن من قال بها فهو المكشوف له، والمطلع على الحقيقة، هو قول مغالطي لا يقوم على دليل. وإطلاقه هكذا سفسطة واضحة.
    إن وحدة الوجود أصلاً حسب المعايير العلمية والعقلية الرصينة قول لم يتضح برهانه بعد، واختلف فيه الناس، وإن كان أكثر الخلق ينفونه، ولكن قول البعض منهم به، لا يجوز اتخاذه دليلاً على صحته في نفسه، فلا يخلو قول باطل أو صحيح من أن يوجد قائل به من الناس.
    وكون القائل به محجوباً، لا يصح قوله إلا ممن يعتقد بصحة وحدة الوجود، ويقطع بها، ولكن هذا المحجوب يحكم أيضاً على القائل بوحدة الوجود بالحجب والجهل أيضاً.
    واستعمال لفظ الحجب هنا للدلالة على الجهل موافق لمذهب أهل الوحدة، لأن الحجب مقابل للكشف، والطريق الصحيح للعلم عندهم هو الكشف، فمن لا كشف له، فهو محجوب، ولكن أهل الحق يستعملون مصطلح العلم والجهل، لا مصطلح الكشف والحجب، فمن خالف الحق فهو جاهل، أو معاند، ومن وافق الحق وقال به، فهو عالم أو متيقن.



    المعنى الصحيح والمعنى الباطل لوحدة الوجود
    إن البدء بالقول بأن لوحدة الوجود معنى صحيحاً ومعنى آخر باطلاً، لا يسمن ولا يغني من جوع، فالمجسمة يقولون إن الحدَّ والجسمية لها معنى محمود ومعنى آخر مذموم، أو معنى صحيح ومعنى آخر باطل، وكل إنسان يمكن أن يتبع هذا السبيل، وهذا المنهج إنما هو الخطوة الأولى في سبيل تشكيك الناس في الحكم مطلقاً بالبطلان على وحدة الوجود، وهذا هو نفس هدف المجسمة من ادعاءاتهم.
    والحق أنه لا يلتفت إلى القائلين بهذا القول مطلقاً، بل إذا سلمنا بوجود معنيين أحدهما صحيح والآخر باطل، فإن هذا يوجب الابتعاد عن استعمال مثل هذا اللفظ في مقام الدعوة إلى علم التوحيد. وعلى كل الأحوال، فإننا سوف ما دار حول هذا المعنى بين العلماء.
    لقد اشتهر بين بعض من تكلم في وحدة الوجود أن لوحدة الوجود معنيين أحدهما باطل والآخر صحيح، واحتج البعض بما قاله الصاوي في ذلك المعنى في شرحه على جوهرة التوحيد، وبما ذكره بعض العلماء، وسوف أبين هنا حقيقة هذا الحال ليعرف هل استناد هؤلاء صحيح أم باطل.
    ولكي نتوصل إلى ذلك سوف أنقل النص الذي يعتمدون عليه في ذلك المقام، ونحلله، لنعرف حقيقة المقام.
    قال الصاوي في شرحه على جوهرة التوحيد([1]):
    "تنبيه:
    شاع على ألسنة العوام: (الله موجود في كل الوجود)، وهو كلام صحيح في نفسه، لأن مفاده وحدة الوجود، لكنه غير لائق منهم، لإيهام الحلول، وتأويله أن تقول:
    معناه أنه مع كل موجود، أي: لا يغيب عن موجود أصلاً، ومعيته معه معناها: تصرفه فيه وتدبيره له، معية معنوية لا يعلمها إلا هو، كما أن ذاته لا يعلمها إلا هو، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
    ومن كلام ابن وفا:..... أن من أعظم إشارات وحدة الوجود، قوله تعالى(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أَوَلَمْ يكفِ بربك أنه على كل شيء شهيد، ألا إنهم في مِرْيَةٍ من لقاء ربهم، ألا إنه بكلِّ شيءٍ محيط)
    ومن ألطف إشاراتها كما قال شيخنا الأمير في حاشيته قولُ أبي مدين التِّلِمساني:
    اللهَ قُلْ وَذَرِ الوجودَ وما حوى
    فالكل دون الله إن حققته
    واعلم بأنك والعوالمَ كلَّها
    من لا وجود لذاته من ذاته
    والعارفون فَنُوا به لم يشهدوا
    ورأوا سواه على الحقيقة هالكا

    إن كنتَ مرتادا بلوغَ كمالِ
    عدمٌ على التفصيل والإجمالِ
    لولاه في مَحْوٍ وفي اضمحلال
    فوجوده لولاه عين محال
    شيئا سوى المتكبر المتعالي
    في الحال والماضي والاستقبالِ


    انتهى كلام الصاوي.
    ومن تأملنا لكلام الصاوي، نرى أنه يتألف من المعاني التالية:
    الأول: محل الكلام هي عبارة دائرة على ألسنة العوام، حاصلها أن الله تعالى موجود في كل الوجود.
    الثاني: تأويل هذه العبارة على معنى مقبول.
    الثالث: استشهاد بكلام بعض القائلين بوحدة الوجود.
    فنبدأ أولاً بالمعنى الأول والثاني، فنقول: العبارة كما قال الصاوي، دائرة على ألسنة العوام، وليست دائرة على ألسنة العلماء، وهذه العبارة تحتاج إلى تأويل، ومعلوم أن التأويل يلجأ إليه عندما يوجد إشكال في النص من حيث المعنى المتبادر إلى الذهن عند قراءته، فيلزمنا إذن أن نبين المعنى الباطل المتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه العبارة.
    وهذا المعنى الباطل هو كما نص عليه الصاوي: إيهام الحلول، والحلول معناه أن الله تعالى حلَّ في مخلوقاته، أو العكس. وهو باطل قطعاً.
    والصاوي يحكم على العبارة في نفسها بالصحة، ويحكم عليها بوجوب تأويلها لإيهامها هذا المعنى الباطل.
    ونحن قد عرفنا الدافع إلى التأويل، وهو إيهام الحلول، فما هو المعنى المفهوم من العبارة الذي يبرر لنا القول بأن العبارة صحيحة في نفسها. لقد علَّلَ الصاوي حكمه بالصحة للعبارة بأن مفادها (وحدة الوجود).
    إذن مصطلح وحدة الوجود عند الصاوي له معنى صحيح، وهو المعنى الذي وضحه الصاوي في تأويله للعبارة، وحاصل هذا التأويل أنه أول حرف (في) الوارد في العبارة، بمعنى المعية، فصارت العبارة Sad الله موجود مع كل موجود)، ونحن إن نظرنا إلى هذه العبارة، رأيناها مطابقة من حيث المعني للآية الواردة في القرآن (وهو معكم أينما كنتم)، فالصاوي إذن يصرف حرف الجر (في) عن ظاهره وهو معنى الظرفية، إلى معنى المعية، الوارد أصله في القرآن، ثم بعد ذلك، أي لما صار معنى العبارة مطابقاً لمعنى الآية الكريمة، سلط الصاوي على العبارة التأويل الذي ذكره العلماء للآية الكريمة.
    فالمعية الواردة في القرآن معناها تصرف الله تعالى لكل الموجودات، وتدبيره لها، لا وجوده معها، ولا كون وجودها عين وجوده، ثم قال: إن هذه المعية معية معنوية لا يعلمها إلا هو، كما أن ذاته لا يعلمها إلا هو.
    إذن فالحاصل أن العبارة محل التحليل، إذا قلنا أن معناها صحيح، فإن المعنى الصحيح الذي نصرفها إليه، هو معنى المعية المعنوية التي معناها تدبير الله تعالى للمخلوقات.
    إذن المعنى الصحيح الذي يراه الصاوي لوحدة الوجود، هو معنى المعية المعنوية، لا المعية الحقيقية، أي المعية الذاتية، التي قال بها بعض الناس، والتي حاصلها أن الله تعالى متحد في وجوده مع وجود المخلوقات، أو أن وجود المخلوقات هو عين وجود الله تعالى، وهو المعنى الصحيح لوحدة الوجود، الذي وضحناه سابقاً في التمهيدات.
    إذن، إذا قلنا أن لوحدة الوجود معنى صحيح، فإن هذا المعنى الصحيح راجع إلى أن الله تعالى مدبر لجميع المخلوقات، ومتصرف فيها، وعالم بها، ولا يعزب عن علمه أيُّ شيء في الوجود.
    أي إننا إذا قبلنا وحدة الوجود على رأي الصاوي، فإننا لا يجوز أن نحملها على معنى غير المعنى الذي ذكرناه، وهو معنى المعية على رأي أهل السنة لا على رأي القائلين بوحدة الوجود الحقيقية.
    وهذا في الحقيقة نفي لوحدة الوجود، كما يقول بها ابن عربي والنابلسي، وليس موافقة على هذا المعنى.
    وأما المعنى الثالث، وهو الاستشهاد بكلام البعض كابن وفا، والتلمساني، فأكتفي هنا بالقول بأن ابن وفا حسب ما يظهر لي من قراءة ما نقل عنه، قائل بوحدة الوجود على معناها الباطل، واستشهاده بالآية المذكورة، فوجه الاستدلال بها، أن الآيات التي في الآفاق وفي الأنفس، هي عين الموجودات التي هي مظاهر الذات الإلهية، فهذا الآيات هي موجودات بنفس وجود الذات الإلهية، لا بوجود آخر خاص بها، فمن رأى هذه الآيات، ورأى أنها مظاهر، علم أن الله تعالى هو الحق، أي هو الثابت، وهو الموجود الحق بوجود خاص، لا غير، أي يعلم الناظر أن هذه الآيات ما هي إلا مظاهر لا وجودات مغايرة لوجود الله تعالى.
    وأما التلمساني، فكلامه في هذه الأبيات الشعرية، ليس نصاً في وحدة الوجود بالمعنى الحقيقي كما يقول به ابن عربي والنابلسي، وهو المعنى الباطل الذي لا يقبله أهل السنة، وليس كذلك نصاً صريحاً في المعنى الذي يمكن أن يقبله العلماء ومنهم الصاوي، والذي أرجعه إلى معنى المعية المعنوية، لا المعية الذاتية.
    فالحاصل أننا نخالف الصاوي في فهمه لكلام ابن وفا، والتلمساني، فهو يحمل كلامهما على المعنى الصحيح المقبول عنده، ولكننا نرى أن كلامهما ليس كذلك، وحمله على ما قال يحتاج إلى قرائن أخرى قد لا تتوفر له.
    فنحن نوافق إذن الصاوي في خلاصة المعنى الذي حمل عليه كلام العوام، ولكننا لا نوافقه في تفاصيل كلامه، ولا نوافقه في الحكم بتصحيح العبارة بحجة أن مفادها هو وحدة الوجود، لأن معنى المعية المعنية، لا يسمى عند العلماء بوحدة الوجود، فتسميته للمعية باسم وحدة الوجود، غير صحيح. بل وحدة الوجود آيِلٌ إلى المعية الذاتية، التي حاصلها أن لا معية أصلاً، بل الكل واحد. ثم إن معنى مصطلح (وحدة الوجود) ليس معنى مقبولا مشهور القبول حتى يتخذ معيارا لقبول الكلام ورده. بل هو مشكل في غاية الإشكال كما سنبين، وكما وضحنا سابقاً.
    فهذا هو تعليقنا المختصر على عبارة الصاوي.
    وقد ذكر العلامة الأمير في حاشيته على شرح الشيخ عبد السلام على جوهرة التوحيد، كلاماً له تعلق بما هنا ولذلك سوف نذكره لزيادة الفائدة.
    قال العلامة الأمير([2]) تعليقا على قول الشارح: "(فواجب له) صفة نفسية له (الوجود) الذاتي بمعنى أنه وجد لذاته لا لعلة فلا يقبل العدم لا أزلاً ولا أبداً لوجوب افتقار العالم وكل جزء من أجزائه إليه تعالى":
    "(قوله: الذاتي) وأما غيره فهو فعله، وذهب بعض المتصوفة والفلاسفة إلى أنه تعالى الوجود المطلق، وأن غيره لا يتصف بالوجود أصلا، حتى إذا قالوا الإنسان موجود، فمعناه أن له تعلقا بالوجود وهو الله تعالى، وهو كفر، ولا حلول ولا اتحاد.
    فإن وقع من أكابر الأولياء ما يوهم ذلك أُوِّلَ بما يناسبه كما يقع منهم في وحدة الوجود، كقول بعضهم ما في الجبة إلا الله، أراد أن ما في الجبة بل والكون كله لا وجود له إلا بالله، فالله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، وذلك اللفظ وإن كان لا يجوز شرعاً لإيهامه، لكن القوم تارة تغلبهم الأحوال، فإن الإنسان ضعيف إلا من تمكن بإقامة المولى سبحانه. ورأيت في مفاتيح الكنوز أن الحلاج قال: (أنا) وفيه بقية من شعوره بنفسه، ثم فني بشهوده فقال: ( الله)، فهما كلمتان في مقامين مختلفين، لكن ممن أفتى بقتله الجنيد كما في شرح الكبرى عملاً بظاهر الشريعة الذي هو أمر الباطن الظاهر.
    وبالجملة فالمقام العظيم لا تحيط به العبارة، والوجدان يختلف بحسب ما يريد الحق([3])." انتهى
    هذا هو كلام الأمير الذي اعتمد عليه الصاوي، وكلام الأمير أكثر تحقيقاً من كلام الصاوي، والمتأمل فيه يرى أنه يتألف من المعاني الأساسية التالية:
    أولاً: وضح ما هو مذهب وحدة الوجود عند الصوفية القائلين به، وحكم عليه بأنه كفر.
    ثانياً: حدد الموقف الشرعي الذي يجب اتخاذه من الكلمات الدالة على وحدة الوجود.
    فأما المعنى الأول، فقد بين رحمه الله أن معنى وحدة الوجود، هو أنه لا وجود إلا لله تعالى، لأن الله تعالى هو الوجود المطلق، وهو عين مذهب وحدة الوجود الباطل، وبناء على هذا المذهب يلزم أنه لا وجود لغيره أصلاً، وبالتالي فإن معنى قولهم الإنسان موجود، أنه له تعلق بالوجود، أي أنه عبارة عن نسبة بين ماهية وهوية الإنسان وبين وجود الله تعالى الذي هو الوجود المطلق، وهو المراد بقولهم بأن الله تعالى يظهر بأحكام الممكنات، ويتجلى لذاته بذاته، وهذا المعنى معنى باطل عند العلامة الأمير، وهو كفر لا ريب فيه، ومع ذلك فلا حلول ولا اتحاد، أي إن القائل بهذا المعنى لا يلزمه القول بالحلول ولا القول بالاتحاد، لأنه لا تكثر للوجود أصلاً عنده، وهو كفر. فالأمير إذن يميز هنا بالضبط المذهب الحقيقي لوحدة الوجود، وينص على بطلانه.
    ثم يبين الموقف العملي من كلمات صادرة عن الناس يظهر فيها هذا المعنى، كقول الحلاج ما في الجبة إلا الله، فالأمير فسره بأنه أراد أن الكون كله لا يوجد إلا بإيجاد الله تعالى، بناء على ما قاله أولاً من أن الوجود الذاتي إنما هو لله تعالى وحده، والوجود المفتقر لسائر العالم، وهذا وإن كان هو المذهب الصحيح، إلا إننا لا نقطع أنه مراد الحلاج، فإن كلمته ربما يظهر منها مع غيرها من كلماته المنقولة عنه معنى وحدة الوجود بالمعنى الباطل الذي حكم عليه الأمير بأنه كفر.
    وإرجاعه اختلاف العبارات عن هؤلاء الناس بحسب اختلاف الأحوال والمقامات، وقدرتهم على هذه المواقف، وإن كان قاله غيره، إلا أن هذا التعليل لا ينبغي أن يمنعنا من اتخاذ موقف من نفس هذه الكلمات بأنها باطلة، وهو عين ما فعله الأمير هنا.
    إذَنْ فالمقصود عند العلماء الملتزمين بأحكام الشريعة، من أنه يوجد معنى صحيح لوحدة الوجود، هو أنه يجب علينا تأويل الكلام الدال على المعنى الباطل الذي يقول به أصحاب هذا المذهب، لمعنى آخر مقبول عندنا إذا صدرت هذه الكلمات ممن اشتهر عندنا حسن سيرته، فالمسألة إذن ليست إلا موقفا عمليا مما ينقل من كلمات معناها الظاهر باطل، وهذا المعنى الصحيح حاصله أن الكون والعالم الموجود، لم يكن ليوجد بسبب علة ذاتية له، بل وجود إنما هو بسبب إيجاد الله تعالى إياه. فوجود العالم ليس عين وجود الله تعالى.
    هذا الكلام وإن كان مختصراً في ما يدعيه البعض من وجود معنى صحيح لوحدة الوجود، إلا إننا نرجو كفايته في هذا المقام، وسوف يأتي لنا كلام آخر عند نقد كلام النابلسي المتعلق بهذا المقام.


    هل القول بوحدة الوجود لا يخالف قول أهل السنة
    هذا هو المعنى الرابع مما ذكره النابلسي الذي سوف نقوم بتحليله هنا.
    إن الشيخ النابلسي ادَّعى في كلامه السابق أن الاعتقاد بوحدة الوجود على المعنى الصحيح –كما يُصِرُّ- لا يخالف مذهب أهل السنة مطلقاً.
    وقد عرفنا مما مضى قصة المعنى الصحيح والمعنى الفاسد لوحدة الوجود، وعرفنا أنه لا يوجد معنيان، بل المعنى الذي يسميه بعض العلماء بأنه صحيح، إنما هو تأويل للعبارات الظاهرة في المعنى الباطل، هروباً من الحكم بالتكفير على من قالها، والمعنى المؤول لا يقال عليه إنه معنى ثان، بل لا معنى حقيقي إلا واحد، والآخر مؤول، هذا عند أهل السنة، وأما عند القائلين بوحدة الوجود، فالمعنى الحقيقي عندهم لوحدة الوجود هو المعنى الباطل لها عند علماء أهل السنة، كما رأينا ذلك في عبارة العلامة الأمير.
    وسنعرف المعنى الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي، لنعرف أن لوحدة الوجود معنى باطلاً آخر عند الفريقين أقصد أهل السنة والقائلين بوحدة الوجود كما عند النابلسي وابن عربي، وغيرهم، وهذا المعنى الآخر، هو في الحقيقة مذهب آخر قال به بعض المنحرفين وسموه باسم وحدة الوجود، وهو وجه آخر لوحدة الوجود النابلسية.
    ولا نريد هنا أن نعلق على ادعاء النابلسي بأن النافين لوحدة الوجود إنما هم جاهلون، وعلومهم غير صحيحة، وأنهم لم يعرفوا اصطلاح القائلين بها، وما قاله من أن علوم القائلين بها مبني على الكشف والعيان، فإن الكشف ليس طريقاً من طرق المعرفة عند أهل السنة، لأنه لا ضابط له.
    وأنت ترى أن النابلسي يقدم الكشف الذي نصَّ العلماء على كونه ليس طريقا للعلم عند أهل السنة، يقدمه على النظر الصحيح الذي عبر عنه تنـزيلاً من مقامه بأنه أَخْذٌ من الكتب، وكيف يَذُمُّ الأخذَ من الكتب وقد أنزل الله تعالى إلينا كتاباً لنأخذ منه، وأمر العلماء بتدوين ما عرفوه في الكتب، فهل يكون هذا كافياً لذم علوم النافين لوحدة الوجود، كلا، بل الأمر لا يتعدى أن يكون زيادة تشنيع من النابلسي لينفر أتباعه من كتب العلماء الراسخين من أهل السنة.
    ولكن الذي لا بدّ من تقريره هنا، أن العلماء الذين نفوا وحدة الوجود هم من أعاظم أهل العلم، ومن الأئمة المتَّبعين، ولا يقال على هؤلاء أنهم جاهلون، ولا أنهم غير عالمين، فمنهم السعد التفتازاني، ومنهم علاء الدين البخاري، ومنهم علاء الدولة السمناني، ومنهم الأئمة المتقدمون الذين أنكروا على الحلاج كالجنيد، وأصحابه، ومنهم من شنع على ابن عربي خاصة كالسرهندي النقشبندي، وقد مرَّ معنا كلام العلامة الأمير، وغيرهم كثير، وأما الذين يلزم من كلامهم الرد على مذهب وحدة الوجود، فهم أعاظم علماء الأمة، من القرون الأولى والمتأخرة، وليس هذا الموضع هو الملائم لاستقراء أسمائهم، ولكني لا أعتقد أن أحداً يقول بأن هؤلاء جاهلون بالاصطلاح، أو من المحجوبين، وليت شعري إذا كان هؤلاء محجوبين، فمن هم الذي انكشفت لهم الحقيقة.
    والحاصل من هذا أن قول النابلسي بأن وحدة الوجود لا يعارض مذهب أهل السنة مجرد ادعاء، لا دليل عليه، بل الدليل قائم على بطلانه، ونحن سوف نبين ذلك تفصيلا في أثناء نقدنا لباقي كلام النابلسي في رسالته هذه، وسوف يتضح لنا بصراحة أن مذهب وحدة الوجود لا يمكن أن يتوافق مع مذهب أهل السنة، ولا يمكن أن يوجد إنسان قائل بوحدة الوجود، في حال كونه معتقداً بأقوال أهل السنة، إذن؛ فمذهب وحدة الوجود لا يمكن اجتماعه مع مذهب أهل الحق.



    موقف النابلسي من علم الكلام
    وقد أوجب النابلسي على كل واحد بعد ذلك([4]): " أن يبحث عنه –أي عن المعنى الصحيح لوحدة الوجود-، ويتحقق به على الوجه التام، ويحفظ عليه ويترك ما عداه من أقوال علماء الكلام، لأنه القول الحق والاعتقاد الصدق، والواجب أيضاً حمايته من طعن الطاعنين وذم الجاهلين له، المتكلمين فيه من غير معرفة به الضالين المضلين."اهـ.
    إذن يجب شرعاً على الإنسان المكلف أن يبحث عن المعنى الصحيح لوحدة الوجود، وأن يؤمن به، وأن يدافع عنه، ويحرم عليه بالتالي أن يتأثر بكل من يخالف القول بوحدة الوجود.
    وإيجاب القول بوحدة الوجود، على كل مكلف، هو إفراط في الانتصار لهذا المذهب الذي ذمه أكثر علماء الأمة المحققين، ينقلب هذا المذهب عند النابلسي إلى فرض عين على كل مكلف، فسبحان الله!
    وهذا الموقف العملي من النابلسي ينبني على عدم اكتراثه مطلقاً بالمخالفين، وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن المخالفين لوحدة الوجود لا يعتمدون على الكشف، ثم هم يخالفون أولياء الله الذين انكشف لهم الحجاب، واطلعوا على المغيبات عياناً.
    إذا التفتنا نحن إلى هذه الخلفية للمعتقد بوحدة الوجود فإننا نرى موقف النابلسي المتشدد من المخالفين مبرراً.
    وأما علم الكلام وعلماء الكلام عند النابلسي فهو علمٌ مذموم، كما هو حكمه بالضبط عند المجسمة والفلاسفة، وأما علم الكلام عند أهل السنة فهو علم أصول الدين وهو علم واجب على الكفاية، لأن به يمكن الكشف عن البدع الاعتقادية، وبواسطة القواعد المبينة فيه، يمكن الرد على المخالفين للدين الإسلامي، وعلماء الكلام هم الذين يمكنهم الرد على أصحاب المذاهب الرَّدِيَّةِ، كالمُجَسِّمَةِ والقائلين بعصمة الأئمة، والقائلين بحلول الله تعالى في أبدان الأئمة، وعلى المذاهب المناقضة للإسلام الذي هو الدين الحقُّ، كالشيوعية والرأسمالية والنصرانية واليهودية، وغيرها، من المذاهب المناقضة للدين الإسلامي.
    هكذا هم علماء الكلام عند أهل السنة، ولكنهم عند النابلسي أصحاب كلام باطل، مجرد كلام في كلام، لا يغني ولا يفيد، فهل موقف النابلسي يعكس حقيقة موقف أهل السنة ؟!
    إنه من الواضح الجلي أن النابلسي يخالف كلام علماء أهل السنة عندما يضع علماء الكلام في محل العابثين، والحقيقة أن هذا ليس موقف النابلسي فقط بل هو موقف جميع القائلين بوحدة الوجود قاطبة، كابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم، وجميع أتباعهم، بل إنني في هذا الزمان رأيت بعض القائلين بذلك والمتأثرين بموقف ابن عربي، من يقلل من شأن علماء الكلام، ويدعي أنهم عابثون، وهو مع قوله الفاسد هذا يعتقد أنه موافق لأهل السنة، ومتبع لهم، وواقع الحال أنه يخالفهم بل يناقض أقوالهم، ويعاديها اعلم أو لم يعلم.
    والسبب في أن القائلين بوحدة الوجود يعترضون على علماء الكلام، ويذمون النظر العقلي المبني على القواعد التي بينها العلماء في علم الكلام والمنطق وأصول الفقه، هو أن عقيدة وحدة الوجود لا تتفق مع القواعد المقررة التي حققها علماء الإسلام، بل إن الذي يتبع القواعد الصحيحة فإنه لا شك سينتهي إلى مخالفة القول بوحدة الوجود، وإلى نفيها، وهكذا هم علماء الكلام الذين يتبعون هذه القواعد النظرية العظيمة، فقد كان المتكلمون هم من ردَّ على أصحاب الوحدة الوجودية، من الفلاسفة والصوفية، فلذلك كان أهم الأمور التي يوصي بها أهل الوحدة أتباعهم هي عدم التعمق في علم الكلام، وعدم الاعتماد على القواعد النظرية، بل إنهم يصرحون بأن علماء الكلام هم أهل الرسوم والمتبعون لظواهر الأمور، ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الكشف والتحقيق، المطلعون على حقائق الأمور بالكشف العيان، ويقولون بأنهم يستمدون علومهم ومعارفهم من الحق مباشرة، بخلاف علماء الكلام، الذين يأخذون علومهم ومعارفهم عن الأموات.
    ثم إن بعض المشايخ المعاصرين القائلين بوحدة الوجود ينهون أتباعهم عن الأخذ عمن يتمسك بالقواعد النظرية وأساليب أهل السنة في البحث والنظر، ويحضونهم على التمسك بالمكاشفات التي نص أهل السنة أنفسهم على أنها لا تفيد العلم.
    فيتضح من ذلك أن أهل الوحدة مخالفون لأهل السنة في الطريقة وفي الأحكام، وهذا يعني أنهم يخالفونهم في المذهب العقائدي، والموقف العملي التابع لذلك.
    وما أقرب هذا الأسلوب الذي يتبعه النابلسي هنا وابن عربي وغيرهم، بأسلوب ابن تيمية، والحقيقة أن طريقة معالجة القائلين بوحدة الوجود للنصوص الشرعية قريبة جداً من الطريقة التي تبعها المجسمة، والموقف العملي الذي يتخذه هؤلاء من مخالفيهم قريب جدا من موقف أولئك. والجامع المشترك بينهم هو عدم كون مذهبهم مبنياً على أدلة قوية، بل إنَّ مذهبهم مبني على مجرد توهما فاسدة لا قيمة لها في ميزان العلم والنظر والقواعد العقلية، ولذلك فإن كلا هذين الفريقين يهربون من الاحتكام إلى المنهج العقلي في النظر والبحث.



    بيان وحدة الوجود عند النابلسي
    قال الشيخ عبد الغني النابلسي([5]): "واعلم أن ليس المراد بوحدة الوجود خلاف ما عليه أئمة الإسلام، بل المراد في ذلك ما اتفق عليه جميع الخاص والعام، وما هو معلوم من الدين بالضرورة من غير إنكار أصلاً من مؤمن ولا من كافر، ولا يتصور فيه إنكار عند العقلاء من الأنام.
    إن جميع العوالم كلها على اختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها موجودة من العدم بوجود الله تعالى لا بنفسها، وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي موجودة به في كل لمحة هو وجود الله تعالى، لا وجود آخر غير وجود الله تعالى.
    فالعوالم كلها من جهة نفسها معدومة بعدمها الأصلي، وأما من جهة وجود الله تعالى فهي موجودة بوجوده تعالى، فوجود الله تعالى ووجودها الذي هي موجودة به وجود واحد، وهو وجود الله تعالى فقط، وهي لا وجود لها من جهة نفسها أصلاً، وليس المراد بوجودها الذي هو وجود الله تعالى عين ذاتها وصورها، بل المراد ما به ذواتها وصورها ثابتة في أعيانها، وما ذلك إلا وجود الله تعالى بإجماع العلماء العقلاء منها، وأما ذواتها وصورها من حيث هي في أنفسها، مع قطع النظر عن إيجاد الله تعالى لها بوجودها[6] سبحانه، فلا وجود لأعيانها أصلاً.
    وأما الوجود الذي به تلك الذوات والصور موجودة فلا شك بأنه وجود الله تعالى عند جميع العقلاء بلا خلاف، وكلام المحققين من أهل الله تعالى عن هذا الوجود لا عن الوجود الذي هو عين ذات الموجود، فالخلاف في رد القول بوحدة الوجود وقبوله، مبني على تعيين المراد بالوجود، فمن فسره بعين ذات الوجود يرد القول بوحدة الوجود، لإثباته وجوداً حادثاً، هو عين ذات الموجود الحادث، ومع ذلك رده للقول بوحدة الوجود محض خطأ، لأن هذا الوجود الحادث الذي يزعم أنه وجود ثان غير وجود الله تعالى، قائم عنده بوجود الله تعالى، فرجع الوجود كله إلى وجود الله تعالى عنده أيضاً.
    ومن فسر الوجود بها صار بيان الوجود الموجود الحادث موجوداً، فإنه يقبل القول بوحدة الوجود ويعتقده حقاً، وهو الصواب الذي ترجع إليه الأقوال جميعها، لأن وجود الله تعالى الذي به كل موجود موجوداً بإجماع العقلاء، فالخلاف في ذلك لفظي راجع إلى تفسير المراد من لفظ الوجود." اهـ.
    ولنا على هذه الفقرة ملاحظات:
    أولاً: يدعي النابلسي في هذه الفقرة أن وحدة الوجود متفق عليها بين جميع المسلمين، بل يدعي أنها معلومة بالضرورة، وهذا الادعاء غريب جداً، فلو أنه اكتفى بادعاء قيام الأدلة عليها، لكان أمراً معتاداً، ولكن لا يجوز لنا أن نستغرب من هذا الموقف، إذ كيف يقارن النابلسي نفسه بغيره، وهو يأخذ علومه مكاشفة وعياناً، وغيره يأخذها بالنظر ؟! ولكن على كل الأحوال، كان ينبغي أن لا يغفل النابلسي أن بعض الصوفية أيضاً المشهود لهم بالقدم الراسخة أنكروا على القائلين بوحدة الوجود، واعتبروها بدعة ومجرد خيال.
    والحقيقة أنه يمكن لأيِّ أحد أن يدعي أن قوله وعقيدته ضرورية وقطعية، ولكن هذا لا يكون إلا مجرد ادعاء عارٍ مادام عارياٍ عن الدليل !!
    فإننا لا يمكن أن ننسى ابن تيمية كيف يدعي الإجماع من السلف والخلف، ووجود النص من القرآن والسنة بل من جميع العقلاء على عقيدة التجسيم التي يقول بها ؟
    وكيف يدعي ابن عربي أن ما يقوله إنما جاء به عن طريق الكشف والمعاينة !!
    وكيف يقول ابن رشد أن فلسفته موافقة للأدلة العقلية القطعية التي لا تردد فيها، ولكنَّ كلَّ واحد لم يعتمد في أخذه لمذهبه على القواعد العقلية الصحيحة، التي قررها علماء الشريعة المقتدى بهم، وليس أهل الوحدة، فإنه من الطبيعي أن يكون بهذه النفسية الشديدة التعصب لما يقول، فهو في الحقيقة لا يملك برهاناً على تدعيم موقفه، إلا تعصبه له.
    ولكن لو كان معنى وحدة الوجود كما وصفه النابلسي في الوضوح والاشتهار والقطعية، فإننا نستبعد جداً أن يقع حولها هذا الخلاف الكبير بين المسلمين منذ أوائل ظهورها إلى هذا الزمان، شأنها في ذلك شأن أي مذهب آخر، ونحن نقول أيضاً، لو كان مذهب الشيعة بوجود نص قطعي على إمامة الإمام علي بن أبي طالب، بعد النبي عليه الصلاة والسلام، لو كان ذلك صحيحاً، فإننا نستبعد جداً أن يقع خلاف كبير مترامي الأطراف بين المسلمين حول هذه المسألة، ويتقاتلوا عليها، إلى هذا الزمان، ولولا أنها مبنية على محض تعصب مخلوط بادعاء يستند إلى توهمات لأدلة غير قاطعة، لما حصل ذلك.
    ثانياً: بقية كلام النابلسي عبارة عن تلخيص جيِّد لمفهوم وحدة الوجود على طريقة ابن عربي، يفهم ذلك العاقلون، وحاصل ذلك أن المخلوقات لها ذوات، وهذه الذوات خاصة بالمخلوقات، وكل مخلوق له ذات، وهذه الذات لا وجود لها، بل حقيقتها إنما هو مجرد كونها ذاتاً محضة، أي ماهية وصورة، وأما الوجود فبما أنه لا ثبوت للوجود إلا لله تعالى، فالوجود واحد، على رأيهم، فينتج من ذلك كله أن هذه الذوات والصور والماهيات قائمة بوجود الله تعالى، لأنه لا وجود غيره، فهي معدومة بعدمها الأصلي فعلاً ولا تزال كذلك، فلا وجود إلا لله تعالى، قبل الخلق وبعده، فلا تكثر للوجود، وهذه الذوات أيضاً موجودة بنفس وجود الله تعالى، لا وجود لها في أنفسها، كما لا وجود لها لأنفسها، ولا وجود لها بأنفسها، فهي أقرب ما تكون كالأعراض القائمة في الجواهر، فلا وجود لها في أنفسها إلا عين وجودها في الجواهر. وهكذا يتصور القائلون بوحدة الوجود الذات الإلهية وعملية الخلق.
    ولكن إذا كان هذا هو حقيقة معنى وحدة الوجود، فكيف يتجرأ النابلسي أن يقول بأن هذا المعنى متفق عليه ومتقرر بين المحققين، ولا يمكن لأحد أن يخالفه، كيف يقول ذلك والحاصل أن أكثر الناس يخالفون هذا المعنى لأن أكثر الناس يقولون بتكثر الوجود ؟! ولم يقل بوحدة الوجود إلا بعض طوائف من الصوفية والفلاسفة وغيرهم.
    إن ادعاء النابلسي الاتفاق على هذا المذهب ادعاء بلا دليل، فهو مردود.
    ثالثاً: ليتأمل القارئ في العبارات التالية التي أطلقها النابلسي:
    - إن جميع العوالم كلها على اختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها موجودة من العدم بوجود الله تعالى لا بنفسها، وإذا كان كذلك فوجودها الذي هي موجودة به في كل لمحة هو وجود الله تعالى، لا وجود آخر غير وجود الله تعالى.
    - وأما من جهة وجود الله تعالى فهي موجودة بوجوده تعالى
    - فوجود الله تعالى ووجودها الذي هي موجودة به وجود واحد، وهو وجود الله تعالى فقط، وهي لا وجود لها من جهة نفسها أصلا
    - وأما ذواتها وصورها من حيث هي في أنفسها، مع قطع النظر عن إيجاد الله تعالى لها بوجوده سبحانه، فلا وجود لأعيانها أصلاً.
    كل هذه الفقرات والعبارات يتركز معناها على أن وجود الله تعالى هو نفسه الوجود الذي توجد به المخلوقات، ونريد هنا أن نحلل هذا المعنى ليزداد وضوحاً.
    إن الذوات عند النابلسي هي عين الصور والتجليات، وهذه الصور لا تقوم بذاتها، كما أنَّ الأعراض لا تقوم بذاتها، أما الجواهر فهي قائمة بالذات، فلا تحتاج إلى محل، بل ما تحتاج إليه إنما هو المخصص، أي الفاعل، فالمخلوقات عنده هي مجرد صور يكونها الله تعالى بذاته، أي بوجوده، فهي لذلك مظاهر الذات ومظاهر الحق، والمظهر هو الصورة، والصورة تقوم بالذات ولا تقوم بذاتها هي، فكل العوالم قائمة بذات الحق، لأنها لا قيام لها بذاتها.
    وأهل السنة يقولون إن العالم هو جواهر وأعراض، والجواهر قائمة لا في محل، بل بأنفسها، والعالم بجواهره وأعراضه غير قائم بالله تعالى، ولا بذات الله تعالى، بل الله تعالى هو الفاعل للعالم والخالق له، ولذلك يقال إن العالم موجود لغيره أي بسبب غيره، ولكنه قائم بذاته، بمعنى أنه غير قائم في غيره.
    فالعالم الذي هو مخلوق لله تعالى غير قائم بذات الله تعالى ولا قائم بوجوده كما يعبر النابلسي، بل هو موجود لله تعالى، أي بسبب الله تعالى.
    وأما قول النابلسي بأن العالم موجود بوجود الله تعالى، فالإشكال ومحل تجلي المعنى المراد، هو حرف الباء، فقوله (بالله) هو الذي عليه دوران المعنى، فالباء كما هو معلوم إما أن تكون سببية، وإما للملابسة، وأما قولنا إن العالم موجود لغيره وهو الله تعالى، فاللام هنا هي لام السببية، ولا إشكال هنا فالمعنى المراد واضح وغير محتمل، كما عند النابلسي. فالباء إذا أريد بها الملابسة، فيصبح العالم ملابس لوجود الله تعالى عند النابلسي، وهو ما يريده القائلون بوحدة الوجود، فلا وجود لغير الله تعالى، وأما لو أريد بها السببية، فيرجع المعنى إلى كلام أهل السنة وهو ما يخالفونه صراحة بقولهم إنه لا وجود لغير الله تعالى.
    والعجب من استعمال النابلسي حرف الباء هنا ووضوح إرادته لما قلناه، ومع ذلك يوجد بعض المتعصبين من أتباعه، يقولون: "ربما أراد معنى السببية"، يظنون أنهم بذلك الأسلوب يزيلون الخلاف ويرفعونه، وهيهات، فلا ترتفع الخلافات بربما وليت ولعل.
    وتكريره استعمال حرف الباء هنا دليل على إرادته للمعنى الذي ذكرناه.
    ثم قال النابلسي:
    "وكلام المحققين من أهل الله تعالى في مسألة الوجود من أعلى عليين، وكلام غيرهم فيها من أسفل سافلين، وكون المراد بالوجود ما به كل موجود موجود في القديم والحادث أقرب إلى التحقيق، فإنه لا غنى للموجود الممكن عن الوجود القديم أصلاً، فوجوده هو وجوده، وذات الموجود الممكن وصورته غير الموجد القديم، فهما اثنان والوجود الذي هما موجودان به وجود واحد، هو للقديم بالذات والحادث بالغير، فالقديم موجود بوجود هو عين ذات القديم، وليس الحادث هو عين ذات القديم، ولا القديم هو عين ذات الحادث، بل كل واحد منهما مباين للآخر في ذاته وصفاته وإن اجتمعا في الظهور بالوجود الواحد وثبوت العين به، فإن الوجود الواحد للقديم بالذات وللحادث بالقديم لا بذاته، فالوجود الواحد في القديم وجود مطلق على وجه لا أعظم منه، وفي الحادث وجود مقيد على وجه يليق بالحادث أدنى من الوجه الأول دنوا صادرا من جهة القديم."
    يقطع النابلسي هنا بأن كلام القائلين بوحدة الوجود كلام لا ريب في صحته، وأنه ليس قابلاً للنقض ولا للمراجعة، ولكن الحقيقة أن كلامه اشتمل على مغالطات نبينها فيما يلي:
    أولاً: إن ما به كل موجود موجود هو الوجود فعلاً، ولكن لا يلزم لكي تصح هذه العبارة أن يكون الوجود واحداً، كما يدعيه النابلسي وغيره، بل تصح هذه العبارة مع القول بتعدد وتكثر الوجود، فوجود كل موجود هو عين ذلك الموجود، وليس أمراً غيره، وهذا هو مذهب الإمام الأشعري، ولكن النابلسي، يقول إن كل موجود إنما وجوده هو عين وجود الله تعالى.
    ثانياً: يصرح النابلسي أن وجود كل ممكن إنما هو عين وجود الله تعالى، والاختلاف إنما هو في كون الممكن صورة ومظهراً من مظاهر الحق، والحق ليس شيئاً من هذه الصور، بل هذه الصور إنما تنسب إلى الوجود نسبة إضافة لا غير، كما تنسب العرض إلى الجوهر، فصور الممكنات تابعة لوجود الحق، ولا وجود لها في أنفسها.
    وأهل السنة يقولون: إن كل ممكن يحتاج في وجوده وبقائه إلى الله تعالى، لا من حيث إنه لا يقوم إلا بذات الله تعالى، ولكن من حيث إنه لا يمكن تحققه في الخارج إلا بإيجاد الله تعالى له وتعلق قدرته جل شأنه به، فما دام تعلق القدرة ثابتاً فإن الممكن موجود، وإذا انقطع هذا التعلق انعدم الموجود الممكن، وواضح أن هذا القدر لا يستلزم قيام الصورة الممكنة بعين وجود الحق جلَّ شأنه كما يقول به أهل الوحدة.
    ثالثاً: الاثنينية التي يقول بها النابلسي ليست هي اثنينية وجودية، بل هي اثنينية المظهر والوجود، وهي اثنينية الصورة والوجود الذي هو وجود الواحد الحق. فالوجود الذي به توجد ذات الممكن وصورته هو وجود واحد وهو وجود الله تعالى.
    فيثبت موجودان بوجود واحد، الموجود الأول هو الممكن والموجود الثاني هو الحق تعالى، وهما موجودان بوجود واحد، وحقيقة الموجود الممكن غير حقيقة الموجود القديم، لأن الممكن ما هو إلا صورة لا قيام لها إلا بذات القديم، كمظهر له واعتبار من اعتباراته، ووجود القديم هو عين ذاته، ولكن وجود الممكن هو غيره لأنه عين وجود القديم.
    Admin
    Admin
    Admin


    المساهمات : 1949
    تاريخ التسجيل : 10/01/2008

    التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود Empty رد: التصوُّف الإسلامي بين وحدة الشهود ووحدة الوجود

    مُساهمة  Admin الأحد يونيو 03, 2012 2:12 am

    وحدة الوجود قريبة من الحلول والاتحاد
    نعم إن مذهب وحدة الوجود قريب من الحلول والاتحاد، ولكن بفارق أن الحلول والاتحاد يستلزم أكثر من موجود، ووحدة الوجود، ينفي ذلك، وربما كان هذا هو السبب في أن العلماء المتقدمين كانوا ينسبون إلى القائلين بالوحدة، القول بالحلول والاتحاد، وذلك لعلاقتهما القريبة.
    إن القائل بوحدة الوجود يقول إن الإنسان يتخلص من ملاحظة القيودات الوهمية الحادثة والتي بها يرى لنفسه وجوداً مستقلاً عن وجود الله، وهذه التقييدات ما هي إلا اعتبارات عدمية كما مرَّ بيانه، فإن تخلص العارف من ملاحظة وهم الوجود المستقل، ظهر له بأن وجوده هو عين وجود الله تعالى، فلا وجود إلا لله تعالى.
    ولكن إذا كان الأمر كذلك، فما هي هذه الموجودات التي نراها حولنا ؟!
    إن هذا السؤال يكون صعباً جداً الجواب عليه على طريقة أهل الوحدة، ولكنهم لا يعدمون طريقة ولو ملفقة، فيقولون بكل وضوح، بأن هذه القيودات ما هي إلا أوهام ووجودات مجازية، لا حقيقة لها في نفس الأمر، إلا من حيث هي مظاهر، والمظهر من حيث هو مظهر ما هو إلا اعتبار للظاهر في هذا المظهر.
    ولذلك قال النابلسي في ص11: "وكذلك وجود الله تعالى المطلق إذا ظهر على الحوادث المفروضة المقدرة وجوداً مقيداً لا يلزم أن يكون قد تغير عما هو عليه من إطلاقه، فإنه وجود مطلق لا ينقسم ولا يتغير، وكيف المعدوم بغير الموجود الحق([7]) ، وإنما التغير والتبديل واقع في الذوات الحادثة وصورها، فالله تعالى يغيرها كيف شاء، ويقلبها من عدمها الأصلي إلى وجودها الطارئ الذي هو عين وجوده سبحانه فتتصف بوجوده سبحانه على حده كائنا بها كما كانت متصفة به في الوجود العلمي من غير أن ينقسم وجوده سبحانه ولا يتغير بسبب هذا الاتصاف المذكور، كما أن الماء الصافي إذا فرضنا وقدرنا أننا وضعنا فيه زاجا فإنه يصير أسود اللون من غير أن يتغير هو في نفسه ولا زال عنه صفاه."اهـ
    فالنابلسي يرى أن المخلوقات الممكنة تتصف بعين وجود الله تعالى، فوجود الواجب صار صفة للممكنات، وهذا هو معنى تعبيره بأنها موجودة به الذي نبهنا إليه سابقاً.
    ومثال اللون والماء الذي وضحه يبين تماماً المعنى الذي ننسبه إلى النابلسي، فالمخلوقات (الزاج، اللون) الحادثة أمور قائمة بالذات الحق والوجود المطلق (الماء)، والماء يصبح ظاهراً باللون، ولكن ماهيته لا تتغير كما هو معلوم، فالله تعالى يكون ظاهراً بالمخلوقات الممكنة، في حال أنه لا يتغير عن حقيقته التي هي الوجود المطلق.
    وهذا هو مفهوم الحلول والاتحاد، أو هو قريب منه، وهو المفهوم الذي نصَّ علماء أهل السنة على أن القائل به كافر.
    وقد لاحظ النابلسي هذا المعنى ولذلك حاول بكل سرعة أن ينفيه عن الأذهان، ولذلك أكمل قائلاً: "وكذلك إذا فرضنا وقدرنا أن فيه زنجفرا فإنه يصير أحمر اللون وهكذا جميع الألوان، والماء لا يتغير أصلاً في نفسه ولا يزول صفاه عنه، وهما شيئان ماء وزاج أو ماء وزنجفر، لا شيء واحد لكنه ماء محقق وزاج أو زنجفر مفروض مقدر، وهما موجودان بوجود واحد، وهو وجود الماء فقط، وليس الزاج المفروض موجوداً بوجود آخر عين وجود الماء، بل لا وجود له أصلاً مع وجود الماء، والوجود للماء وحده، ولكنه استعير للزاج المفروض المقدر أو الزنجفر وجود الماء لكونه مفروضاً مقدراً فيه ولا حال في الماء شيء، ولا اتحد الماء مع ذلك الزاج المفروض المقدر، ولا الزاج مع الماء وإنما هما حقيقتان ماء حقيقي موجود بنفسه وزاج أو زنجفر مفروض مقدر لا وجود له بنفسه، بل بوجود الماء الفارض المقدر له فيه."اهـ
    لو اكتفى النابلسي بهذا المثال على صورته السابقة بدون تقييد كما فعل هنا، لما كان المثال كافياً لبيان وحدة الوجود، ولذلك حاول في هذه الفقرة أن يبين كيف أن اللون لا وجود له في نفسه، وأصرَّ على أنه مجرد أمر مفروض ومقدر فقط، وأنى له ذلك، فلا أحد يجهل أن اللون له وجود في نفسه، ولذلك يخلط بالماء، واللون الذي ظهر الماء به هو لون الزنجفر أو الزاج، لا مجرد لون مفروض مقدر، كما يدعي النابلسي.
    وإذا كان الأمر كما نقول، فإن الحقيقة أن ما هنا هو حلول واتحاد لا وحدة وجود. أو هو اختلاط ومزج بين أمرين وليس مجرد أمر واحد كما يريده النابلسي.
    وأنا أتعجب كيف يقول النابلسي بأن اللون ما هو إلا أمر مقدر ومفروض والحال أن له حقيقة في نفسه بدون الماء، وهذا القدر لا ينكره أحد.
    وكيف ينفي النابلسي أن يكون الزنجفر قد حلَّ في الماء، واتحد به نوع اتحاد، والحال أن هذا هو الواقع بالفعل في الخارج، وهو أمر لا يجوز أن يكون مورد الشك والقلق.
    فالحاصل أن هذا المثال يبين أن وحدة الوجود مستحيلة، ولا بد من فرض الكثرة، ليستقيم لنا بيان الخلق، ولا يمكن أن يكون الخلق والمخلوقات مجرد أمور مقدرة ومفروضة، كما يدعي أصحاب هذا المذهب الغريب.
    ونقول للنابلسي: نعم يمكن أن تقول بأن الوجود الجوهري واحد، ولكن التعدد والتكثر الظاهر ناتج من اتحاد أعراض ممكنة بهذا الوجود الجوهري، وعلى كل الأحوال، ومهما قدرتَ المعنى، فإنه ينتج عندنا أن الوجود الذي به تقوم الأكوان والألوان يتغير وتبدل ويتحد بغيره ويحل فيه غيره، سواء كان هذا الغير عرضاً أم جوهراً.
    ثم تعرض النابلسي لكون الوجود مشتركا، فقال: "إن الوجود مشترك بحسب الظاهر بين الموجود المحقق وهو الماء، وبين المفروض المقدر وهو الزاج أو الزنجفر، فلا يمتنع أن يكون مشتركاً أصلاً في حقيقة الأمر، كما أن اللفظ الواحد إن كان مشتركاً في الاستعمال بين معناه الحقيقي الموضوع ومعناه المجازي الموضوع له، لا يمتنع أن لا يكون مشتركا أصلا في الوضع، بل الوجود هو وجود الماء المحقق وحده، والزاج والزنجفر المفروض المقدر له وجود آخر مفروض مقدر مثل هو عين ذاته ونفس صورته" اهـ.
    كذا قال، والحقيقة أن الكلام في الاشتراك إما أن يكون على اللفظ، أو على مصداق الوجود، أي ما يقع عليه لفظ الوجود في الخارج أو في نفس الأمر. فإن كان على اللفظ، فهذا يلزم عنه أن يكون الوجود الحقيقي أمراً واحداً، والثاني مجازاً، والمجاز في الوجود إما أن يستلزم نفي التكثر فيه أصلاً، أو لا يستلزم، فإن استلزم، فهو وحدة الوجود، وإلا فإن الخلاف يكون لفظياً فقط، أو أن يكون لفظ الوجود واقعاً على حقيقتين مختلفتين ثابتتين في الخارج، وهذا القول هو قول الإمام الأشعري، فإنه قائل بأن وجود كل شيء هو عين ذلك الشيء، أي إن الوجود ليس زائداً على حقيقة الموجود، بل هو عينه.
    وأما مذهب الإمام الرازي فهو قائل بأن الوجود عبارة عن لفظ واقع على معنى واحد فقط، هو مشترك اشتراكاً معنوياً بين الواجب والممكن، واشتراكه اشتراك في العروض لا في الحقيقة لاستحالة اشتراك أمر حقيقي بين الواجب والممكن.
    وقد وضح النابلسي الاشتراك على غير حقيقته التي ذكرناها، بل خلط بين الاشتراك في اللفظ وبين الاشتراك في المصداق، وهو الاشتراك الخارجي، والحقيقة أن لا اشتراك عنده، لأن الاشتراك يشترط فيه سبق التكثر، ولا تكثر على مذهب وحدة الوجود، فكيف يقال بالاشتراك.
    ثم حاول النابلسي بعد ذلك أن يؤول مذهب الإمام الأشعري والإمام الرازي ليكونا متوافقين مع ما يقول به هو من وحدة الوجود، وكلامه لا قيمة له، فقد قال: "بل الوجود هو وجود الماء المحقق وحده، والزاج والزنجفر المفروض المقدر له وجود آخر مفروض مقدر مثل هو عين ذاته ونفس صورته مثلما قال الأشعري رحمه الله تعالى وزاد على ذاته وصورته كما قال الفخر الرازي وهو مذكور في مواضع من علم الكلام، في مبحث الوجود، فإن القائلين بوحدة الوجود مرادهم بالوجود الوجود الذي به صار الموجود موجودا، لا الوجود الذي هو مفروض مقدر، لكن من جنسه، فافهم هذا المثال، ولله المثل الأعلى في السموات." اهـ.
    ولكن قد تبين لنا أن مذهب الأشعري لا يمكن التقاؤه مع مذهب وحدة الوجود، لأنه قائل بأن وجود كل شيء عين ذلك الشيء، على المعنى الذي ذكرناه سابقاً، وأما الإمام الرازي فقد وضحنا مذهبه أيضاً، ولا يتفق مذهبه مع قول أهل الوحدة، والنابلسي يهمه جداً أن يبين أن مذهب الأشعري لا يتعارض مع ما يقول به من الوحدة، لا لأن كلام الأشعري ولا لأن كلام الرازي مهم جداً عنده، بل لأن أكثر العلماء في الإسلام يتبعون هذين الإمامين، وأما عنده فإن كلمة واحدة من ابن عربي -الذي يتعلم بواسطة المكاشفة الصريحة، وبارتفاع الحجاب بينه وبين الحق تعالى!- تغنيه عن كلام كثير للرازي والأشعري معاً.
    وتفسيره الوجود عند أهل الوحدة بأنه الذي به صار كل موجود موجوداً، لا يكفي ليدلل على صحة مذهبه، لأن الوجود الخاص لكل ممكن أخرجه الله تعالى من العدم إلى الوجود، هو الذي به يصير هذا الممكن موجوداً، فإنه وجوده الخاص، وقولنا إن الوجود الخاص هو الذي به صار الممكن موجوداً، لا يستلزم أن يكون علة كل ممكن عين ذاته، بل علة كل ممكن وسببه هو تعلق قدرة الله تعالى، ولكن هذا الممكن لا يقوم في الخارج في ذات الله تعالى ولا بوجود الله تعالى كما يقول أهل الوحدة، بل يقوم بعين ذات التي هي الوجود الخاص.
    والمثال الذي وضحه النابلسي لا يبرئه من القول بوحدة الوجود بالمعنى الذي وضحناه نحن سابقاً، ولا تنفي عنه الشنائع التي تلزم القائلين بالوحدة.
    إن المشكلة الكبرى عند النابلسي هي أنه لا يتصور قيام أي ممكن إلا بعين ذات الله تعالى، وبعين وجود الحق تعالى، وسواء عنده في ذلك للممكن العرض أو الممكن الجوهر.
    والتناقض الكبير الواضح عند القائلين بالوحدة، هي قولهم أن كما قال النابلسي :"المخلوق بالنظر إلى ذاته إنما هو عدم صرف، وإنما وجوده بوجود الله تعالى، فالوجود لله تعالى وحده وإن وجد به ما سواه".اهـ، فكيف يكون المخلوق الممكن عدماً صرفاً في ذاته ويكون قائماً بذات الله تعالى، وكيف يكون في ذاته عدماً صرفاً والله تعالى خالقه، أيخلق الله تعالى عدماً صرفاً، أم يقوم في ذاته تعالى عدمٌ صرفٌ.
    ولا يضطر أحد إلى القول بمذهب وحدة الوجود إذا تنبه إلى الحقائق التي بيناها فيما مضى، من الفرق بين قيام الشيء في نفسه وبنفسه ولنفسه، أو قيامه بغيره أو لغيره، فإن الإنسان إذا تأمل في هذه المعاني لم يبق عنده محل للشك والتردد في عدم الحاجة إلى القول بحدة الوجود.
    والحقيقة أن الوحدة المطلقة عند أهل السنة لا ترجع إلى الوحدة في الوجود، بل إلى الوحدة في الأفعال، ولذلك فإنهم أرجعوا كل شيء إلى كونه مخلوقاً لله تعالى، ولم يقولوا إن كل شيء موجود بالله تعالى، لأن ذلك يلزم أن يكون كل شيء عرضاً، لاستحالة قيام الجوهر بالجوهر، ويلزم بعد ذلك قيام الأعراض بالذات الإلهية وهو مستحيل.
    والنابلسي يرفض إثبات وجود آخر غير وجود الله تعالى، ويعتبر كل من أثبت وجود ثانياً للمخلوقات فإنه يلزمه إثبات المضاهاة التامة بين العالم والمعلوم، والصانع والمصنوع. وهذا الإلزام كما تراه أيها القارئ إلزام باطل، لا يلزم من أثبت أكثر من موجود، لأنه يقول مع كثرة الموجودات، إن حقائقها مختلفة، وليست حقائقها متساوية، فمن أين يلزمه إثبات المضاهاة بين الخالق والمخلوق؟! فما هذا الكلام إلا مجرد اتهام لا دليل عليه من النابلسي كأكثر ما في هذا الكتاب، سامحه الله.
    وأما عند النابلسي فحقيقة المخلوق مختلفة اختلافاً تاماً عن حقيقة الواجب، لأن حقيقة المخلوق عدم صرف، وحقيقة الواجب وجود تام، فلا مشابهة بينهما، :"لأن المفروض المقدر في نفسه عدم صرف، وكيفية الوجود يحل به في العدم، وكذلك لا يتصور أن يتحد معه أصلا، لأن الحقيقتين متباينتان تباينا كليا، بحيث لا مشابهة بينهما أصلاً، فحقيقة الحق وجود صرف مطلقاً حتى عن الإطلاق لأنه قيد، وحقيقة المفروض المقدر عدم صرف مقيد." اهـ.
    هذا هو ما يعتقده النابلسي والقائلون بوحدة الوجود معه، فوجود المخلوقات متوهم، والحقيقة أنها غير موجودة، بل هي عدم صرف، وهي وجود مقدر في وجود الله تعالى.
    ثم قال النابلسي: "والأمر كله راجع على كل حال إلى وجود الله تعالى عن الجميع، فوجود الله تعالى هو الوجود، والوجود كله بلا وجود الله تعالى عدم صرف، فلا وجود إلا وجوده تعالى، فكلهم قائلون بوحدة الوجود طوعا أو كرها." اهـ.
    الوجود القائم بذاته لذاته لا أحد يعدده، ولا أحد يقول بكثرته، ولكن الوجود المستقل في القيام بذاته، وإن كان معلولا ومسبَّبا لغيره، فأكثر الخلق والعقلاء يقولون به، والنابلسي يحاول بكل طريقة أن يلزم الناس بوحدة الوجود، وأنَّى له ذلك، ووحدة الوجود عنده أن لا يكون ثمة موجود إلا الله تعالى، وسائر الأمور الأخرى من الممكنات قائمة بذاته، تابعة له في الوجود، بل وموجودة بنفس وجوده، وهذا المذهب ضعيف لا دليل عليه إلا مجرد تحكمات وتوهمات كشف ومعاينة.
    وكيف أمكن للنابلسي أن يجزم ههنا أن الجميع يلزمهم القول بوحدة الوجود على المعنى الذي يقول به هو، والحال أن أكثر المتكلمين الذين يسميهم هو وجماعته أصحاب الرسوم، ينفون وحدة الوجود، ويثبتون كثرته، ولكن مع قولهم بكثرته يقولون باحتياج سائر الموجودات في قيامها وبقائها إلى واجب الوجود الواحد الحق.
    وهذا المعنى ليس هو المقصود عند النابلسي، بل هو يريد أن لا يثبت وجود قط إلا للحق، فكل ما عداه فهو نفي محض!
    فكيف إذا كان الأمر كذلك، يقول النابلسي أن الجميع يلزمهم القول بوحدة الوجود ؟!!
    أليس هذا مجرد تهويل يشابه تهويلات المجسمة كابن تيمية عندما يدعون أن سائر العقلاء يلزمهم القول بالجهة أو أنهم يثبتون الجهة لله تعالى؟!
    إن مثل هذه المباحث لا يليق بالعاقل أن يتبع هذه الطريقة من التهويل، لأنها إن جازت على العامة والغافلين من الناس، فإنها لا تجوز على العقلاء النابهين، والأمر موقوف أخيرا على اقتناع العقلاء لأنهم بهم يقتدي العامة، بل إن هذا التشدد يترك أثراً سلبياً كبيراً في نفوس العوام والعلماء، فيدفع العوام إلى التعصب والتشدد، ويدفع العلماء إلى مهاجمة هذا المذهب بشدة وقسوة كما حصل عند البعض، فلا يستفيد أصحاب هذا المذهب إلا مناصرة جاهل وعداء عالم.
    ولما كان النابلسي غارقاً حتى أذنيه في القول بوحدة الوجود، توهم أنه لا دليل واحد عند المخالفين من العلماء المتكلمين، فقال ص17:"والحاصل أن جميع علماء الظاهر لا حقَّ معهم في الطعن على القائلين بوحدة الوجود من المحققين العارفين القائلين بذلك على وجه الحق والصواب كما ذكرنا".اهـ
    وهو يوهم بذلك أن المخالفين لوحدة الوجود من العلماء إنما يخالفونها لكونهم لم يتبين لهم المعنى الصحيح من هذا المذهب، وهو ادعاء بعيد، لا برهان عليه، بل البراهين قائمة على أن المخالفين قد فهموا تمام الفهم معنى الوحدة، وردوا عليها بأدلة صحيحة، وتأمل كيف يسمي المخالفين لوحدة الوجود بعلماء الظاهر، ويسمي القائلين بها بالعارفين المحققين، وهذه التسمية تداولوها كابرا عن كابر، وتناقولها حتى صارت علامة عليهم، ولا يريدون بها إلا التنقيص من علم علماء الشريعة، الذين يأخذون بالظاهر من العقول والمنقول، وهذه هي الطريقة الحقة، ويريد أصحاب الوحدة بذلك إعلاء مذهبهم وأصحابهم، بوصفهم بأسماء عالية المعاني مثل المحققين، والعارفين، والمكاشفين، ولا ينخع بهذه الطريقة إلا العوام كما قلنا، بل إن هذه الطرق التي يتبعها أصحاب المذاهب الباطلة علامة على بطلان أقوالهم فإنهم لا يجدون ما يتشبثون به إلا مثل هذه الطريق والوسائل الدعائية القائمة على مجرد الترويج الذي لا حاصل تحته، إلا طلب خداع العوام، وتأييدهم.
    ولو كان أصحاب هذه الطريقة قائلون بالحق ومعهم الأدلة على ذلك، لما ركنوا إلى مثل هذه الطرق المكشوفة، بل تمسكوا أولاً بذكر الأدلة وإفحام الخصوم كما فعل أصحابنا من المتكلمين من أهل السنة، ومن بعد ذلك يمكنهم أن يسموا أنفسهم بما يشاؤون من الأسماء، ولكن ذلك لا يكون إلا بعد إقامة الحجة، ولا يكون هو بعينه الحجة، فما هذه الأسماء إذن إلا أسماء يَتَسَمُّونَ بها لا حاصل تحتها.



    المعنى الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي
    لما ذكر النابلسي المعنى الذي يعتقد به من وحدة الوجود، أشار إلى أن هناك من قال بوحدة الوجود ولكن على معنى باطل لا يوافقهم هو عليه، وسوف نورد كلامه في بيان المعنى الباطل لوحدة الوجود الآن، ومن ثم نوضحه، ونعلق على كلامه.
    قال النابلسي ص17: "وأما القائلون بوحدة الوجود من الجهلة الغافلين والزنادقة الملحدين الزاعمين بأن وجودهم المفروض المقدر هو بعينه وجود الله تعالى، وذواتهم المفروضة المقدرة هي بعينها ذات الله تعالى، وصفاتهم المفروضة المقدرة هي بعينها صفات الله تعالى، الذين يحتالون بذلك على إسقاط الأحكام الشرعية عنهم، وإبطال الملة المحمدية وإزالة التكليف عن نفوسهم، والطعن عليهم بسبب القول بوحدة الوجود على هذا المعنى الفاسد طعن صحيح، وعلماء الظاهر مثابون بذلك كمال الثواب من الملك الوهاب، والعارفون المحققون معهم في هذا الطعن من غير خلاف."اهـ.
    ثم ذكر كلاما عن الجيلي يذم هؤلاء، ثم قال:" انتهى كلامه هذا عن القائلين بوحدة الوجود على حسب ما ذكرناه من المعنى الفاسد، ولكن علماء الظاهر إذا ترقوا من الطعن في هؤلاء الرعاع السفلة المارقين من الدين مروق السهم من الرمية إلى الطعن في تلك السادة الأئمة العارفين المحققين، بظنهم أنهم يقولون بوحدة الوجود مثل قولهم، كان ذلك أمرا شنيعا في الدين، ولا يُرْضِي مَنْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر."اهـ
    إذن فالمعنى الباطل لوحدة الوجود عند النابلسي هو أن يعتقد الإنسان أن وجوده المقيد المفروض هو عين وجود الله تعالى، وتوضيح ذلك بالاعتماد على ما مرَّ، أن هناك أمرين، الأول هو الوجود المطلق، وهو عين وجود الله تعالى، والثاني هو التقييدات الواردة على هذا الوجود، وهي التي يسميها أهل الوحدة بالصور والمظاهر، والتقييدات، فيثبت أمران، فوجود الله تعالى عند النابلسي، هو ذلك الوجود المطلق عن كل قيد حتى عن قيد الإطلاق، وأما الوجود المقيد فهو الوجود الممكن، وهو في الحقيقة ليس موجوداً بل هو عدم محض، لا تحقق له، ولا وجود، وإطلاق الوجود عليه مجرد أمر مجازي، يصح نفيه على قوانين اللغة.
    فهذا هو خلاصة معنى وحدة الوجود، وأما المعنى الباطل الفاسد الذي ينبه عليه النابلسي ويذم القائلين به، فهو القول بأن هذا الوجود المقيد هو عين وجود الله تعالى، فالحاصل أن هذا القول يؤدي إلى أن هناك اتحاداً بين الموجودات، ومجموعها يسمى بوجود الله تعالى، وليس هو وحدة وجود، وربما لذلك نفى النابلسي هذا المعنى، فنسبة القيد إلى المطلق باطل.
    فهذا المعنى باطل عند النابلسي كما هو باطل عند علماء أهل السنة، ولكن النابلسي يحصر البطلان فيه، ويحكم بالصحة على مذهبه هو، وعلماء أهل السنة يبطلون أيضا مذهب النابلسي.
    والنابلسي يصور المسألة كما لو كان علماء أهل السنة قد لاحظوا بطلان هذا المعنى الباطل من الوحدة، فتوسلوا به لإبطال المعنى الصحيح الذي يدعيه النابلسي وغيره، ويعتبر هذا الأمر غير موافق للشريعة، لأنه يعتقد أن المعنى الذي يقول به النابلسي حق عنده.
    ولكن الحقيقة أن أهل السنة أبطلوا المعنيين معاً، أقصد المعنى الذي يصححه النابلسي والمعنى الذي يبطله هو.
    والنابلسي يعترض على هذا الموقف، ويريد من علماء أهل السنة أن يصححوا المعنى الذي يصححه هو، ويبطلوا المعنى الذي يبطله، هذا هو ما يريده النابلسي، وهو منهج غلط وطريق غير صحيح، كما لا يخفى.
    ولا يهمنا نحن أن يغضب النابلسي لمخالفة الناس له، بل ما يهمنا هو ألا يغضب الله تعالى، وتجنب غضبه تعالى إنما يكون في اتباع القول الحق لا غير، سواء قال به النابلسي أو لا.
    والوجود المقدر المفروض الذي يثبته النابلسي إنما هو نفي محض في الخارج، وليس بشيء، كما مرَّ بيان ذلك، أو إنه مجرد عرض قائم بالوجود القديم، وكل من هذين التقديرين محض باطل.
    والحقيقة أن نظرة مذهب وحدة الوجود كما يبينها النابلسي وهي عينها التي يقول بها ابن عربي، غريبة جداً، أي أستغرب أن يقول بها واحد من المسلمين، وجهة الغرابة تتجلى في قول النابلسي ص19:"والوجود المفروض المقدر عدم صرف في نفسه، وإنما الوجود المحقق وجود الحق تعالى وحده الخالق، أي الفارض المقدر لكل شيء، أو الموجد بطريق الفرض والتقدير لكل شيء، ولا يقال لو كان كل شيء من المخلوقات مفروضا مقدراً لما كان كما نشاهده محسوساً ومعقولاً ثابتاً موجوداً محققاً، لأنا نقول فرض الله وتقديره لوجودات الأشياء في أعيانها، ليس كفرضنا نحن وتقديرنا للشيء المعدوم، وقد جعل الله تعالى ما نفرضه ونقدره، أنزل رتبة منا ليكون ذلك فينا مثالا لما يفرضه الله تعالى ويقدره من وجودات الأشياء المعدومة، وأنها أنزل منه تعالى في الوجود."اهـ
    أرأيت وجه الغرابة فيما نقلناه عن النابلسي، إن الموجودات عنده مجرد تقدير في ذات الله تعالى، ومجرد فرض وتقدير في نفسه جل شأنه، والتقدير والفرض ليس مثل المُقّدِّرِ والفارض، ومثل لتوضيح ذلك المعنى، ما نفرضه ونقدره في أنفسنا، فإنه أنزل منا وجوداً ورتبة، ولا ينفي ذلك أنه مجرد فرض وتقدير، وهذا الفرض والتقدير محله في أنفسنا وليس في الخارج، فلا وجود له إلا من جهة كونه تقدير وفرض قائم في أنفسنا، والمخلوقات كذلك ما هي إلا مجرد تقديرات وفرضيات في نفس الله تعالى وهو الوجود الحق عنده، وكما أن لا قيام لهذه التقديرات والفرضيات إلا في نفس الإنسان، فكذلك فإن المخلوقات الممكنة، ما هي إلا مجرد تقديرات وفرضيات في نفس الله تعالى.
    فما العالم كله إلا مجرد تقدير للواجب الوجود وهو الوجود المطلق، والتقديرات ما هي إلا اعتبارات ونسب قائمة في ذات الله تعالى، لا قيام لها إلا في عين ذات الحق، وهذا هو معنى وحدة الوجود.
    ووحدة الوجود عند النابلسي هو المذهب الحق، الذي لا ريب فيه، ومخالفه كافر، قال النابلسي ص 19: "فإذا حكمنا على الجاهل بما يرى في مذهب حكمنا بكفره حيث أنكر ما هو الحق على أهل الحق."اهـ
    فوحدة الوجود حقٌ ثابت عند، وعند أصحابه، ومخالفها كافر لا ريب في كفره.
    وقد وجه النابلسي في آخر رسالته هذه نصيحة حاصلها أن: "الجاهل الذي لا يعرف علوم الأذواق، وإنما علمه الذي هو غير عامل به أيضاً، مأخوذ من الكتب والأوراق له مندوحة عن الإنكار، وهو تحسين الظن بالله تعالى، والاعتراف بأنهم أعلم منه بالله تعالى، وأنه جاهل بكلامهم، فلا ضرورة له في الإنكار عليهم، مع علمه بكفر من أنكر الحق إجماعاً."اهـ
    وحاصل هذه النصيحة أن مخالف وحدة الوجود بالمعنى الذي ذكره النابلسي، هو أن مخالفها لا شك جاهل بالله تعالى، وأن من قال بها لا شك أنه من العارفين الكاملين، الذين لا تجوز مخالفتهم، ولا الإنكار عليهم، فإذا اعتقد المخالف نزول مرتبته العلمية عن المثبتين، فإن عليه أن يحسن الظن بكلامهم.
    ولكن، هذه النصيحة مبنية على باطل وكل ما هو مبني على باطل فهو باطل، فإن النصيحة يجب أن تكون بعد إقامة الحجة، ولم يقم النابلسي الحجة على أحد، بل غاية ما كرره في كلامه، مجرد وصف القائلين بالعلم، والمنكرين بالجهل، ووصفه غير مسلم له، ولم يقم دليلاً واحداً على ما قاله، نعم لقد أرجأ الاستدلال على ما قاله إلى محل آخر، ونحن قد تعقبناه في غير موضع من كتبه التي ذكر فيها بعض الأدلة ونقضنا عليه جميع ما ذكره على أنه دليل وزيفنا كلامه، وبيَّنَّا أنَّه لم يقمه إلا على مجرد الوهم.
    وكيف يجوز للنابلسي أن يستهين بمن استمد علومه من الكتب، وقد أنزل الله تعالى كتابه هداية للناس، وفرقاناً بين الحق والباطل، ولم يجعل الله تعالى حجته في كشف من يسميهم النابلسي بالعارفين، بل أودع حجته في كتابه الكريم، وجعل عليها العقل السليم علامة.
    ولا يقصد النابلسي من ذلك إلا جعل الكشف بعينه دليلاً على وحدة الوجود، ونحن لا نرى للكشف كشفاً، وقد نص علماء السنة على أنه ليس من طرق العلم والمعرفة عند أهل الحق، والقائلون بوحدة الوجود يعتبرون الكشف والإلهام طريق المعرفة الأهم، فهم في ذلك مخالفون لأهل السنة ولأهل الحق.
    وأغرب ما في الكتاب ما نقله النابلسي عن: "الشيخ أحمد القشاشي المدني رحمه الله تعالى في رسالته في وحدة الوجود عن ابن كمال باشا رحمه الله تعالى ومن خطه نقل، كما صرح بذلك، أنه يجب على ولي الأمر أن يحمل الناس على القول بوحدة الوجود." اهـ.
    فسبحان الله تعالى، من أوضح حجة وأبين برهاناً، وحدة الوجود، أم ما ذكره الإمام مالك في موطئه، وقد رفض الإمام مالك عرض الخليفة أن يحمل الناس على ما في كتابه، ولكننا نرى النابلسي يؤيد أن يحمل الإمام الناسَ على القول بوحدة الوجود وهو المذهب الذي اشتد اختلاف الناس فيه، حتى بلغ من بعض كبار العلماء أن يكفر القائل بها، ويحكم بزندقته، وها نحن نرى النابلسي يقول بوجوب القول بها، وبلزوم حمل الإمام للناس على القول بها. فسبحان الله تعالى، فانظر كيف تدعو البدعة والانحراف العقائدي أصحابَها إلى التمسك بمثل هذه المواقف المختلَّةِ الضعيفة لبادئ الرأي.
    وما أقرب هذا الموقف إلى موقف المعتزلة الذين اشتطوا وغلوا في قولهم بخلق القرآن، حتى أوجبوا على الناس أن يقولوا بها، ولو أنهم تركوا الأمر إلى الدليل، وأودعوا هذه المسألة للناس يتجادلون بها فيما بينهم، لما أنكر عليهم أحد من الناس كما أنكروا، ولكان لهم شأن وأي شأن في تاريخ المسلمين !!
    وبهذا نكون قد انتهينا من التعليق على ما في رسالة الشيخ عبدالغني النابلسي، ونقدنا ما فيها من مدعيات، وأقوال فاسدة، واكتفينا بإشارات واضحة، كما اكتفى مؤلفها بمثل ذلك، ليكون مقابلة الشيء بمثله، وقد تركنا التفصيل في الرد على أدلة القوم في قولهم بوحدة الوجود إلى موضع أكثر مناسبة.


    الباب الثاني
    وحدة الوجود بيـن الفلاسفة

    هذا الباب وضعته لكي أوضح بعض الحقائق المختلفة عن عقيدة وحدة الوجود، لا من حيث إن ابن عربي والنابلسي أو غيرهم، قائلون بها، بل من حيث امتدادها بين المفكرين المتقدمين والمتأخرين، وبين الفلاسفة علىاختلاف مذاهبهم وأوضاعهم.
    ولا أريد أن يكون هذا تأريخاً لوحدة الوجود بل مجرد لفت نظر إلى بعض من قال بها ليتبين لنا مدى الانفعال الحاصل بين القائلين بها، أو مدى الاشتراك في أقوالهم ومذهبهم.
    إكسينوفان
    إن مذهب وحدة الوجود ممتد منذ أوائل الفكر الفلسفي وامتداداته التي تمثلت في اليونان، فممن قال بوحدة الوجود إكسينوفان.
    قال عبد الرحمن بدوي في كتابه ربيع الفكر اليوناني ص118: "ومن هنا فمن الراجح تماماً إن إكسينوفان كان موحداً، لكن على أي نحو يجب أن نفهم هذا التوحيد؟ أنفهمه على طريقة المؤلهين أم على طريقة القائلين بوحدة الوجود؟ هنا يختلف المؤرخون أشد الاختلاف، ولكن خلاصة الرأي أن إكسينوفان كان يقول بوحدة الوجود ولم يكن يقول بالتأليه بالمعنى المفهوم لأنه جمع بين الطبيعة وبين الله، وتحدث عن الله بوصفه الطبيعة، وعن الطبيعة بوصفها الله." اهـ.
    فهذا الفيلسوف اليوناني يقول إذن بوحدة الوجود، وهو يعتقد أن الله هو الطبيعة، والطبيعة هي الله، ونحن نفهم أن بين هذا المعنى لوحدة الوجود وبين ما وضحناه عن النابلسي فرقاً، ولكن خلاصة المذهبين، أنه لا يوجد إلا موجود واحد حقيقي في الكون، البعض يسميه بالإله، والبعض يسميه بالطبيعة، ولذلك قال عبد الرحمن بدوي عن إكسينوفان ص120: "وإذا نظرنا إلى إكسينوفان من ناحية الوجود ألفيناه أولا ينسب إلى الله الصفات التي سينسبها الإيليون من بعدُ إلى الوجود."اهـ.
    ونحن نعلم أن الصفات التي ينسبها القائلون إلى الوجود المطلق هي عين الصفات التي ينسبونها إلى الله تعالى، بمعنى أن الله تعالى هو عينه الوجود المطلق، كما مرَّ توضيحه سابقا. وبالتالي فلا يوجد فرق كبير من هذين المذهبين.

    برمنيدس
    إن برمنيدس نظر إلى الوجود على أنه شيء مجرد وليس هو الطبيعة نفسها.
    قال بدوي في ص121: "كما أضاف إلى الوجود الصفات الأصلية التي تجعل من هذا الوجود كالألوهية سواء بسواء، ولهذا لم يكن يفرق بين الوجود والآلهة، لأنه ابتدأ من مسألة الوجود، بأن قال إن الشيء الحقيقي الوحيد هو الوجود، أما ما عداه فهو عدم."اهـ.
    وأوضح بدوي مذهب برمنيدس : "ثم إن الوجود إذا كان كذلك فهو واحد ومطلق، وذلك لأنه إذا لم يكن واحدا فمعنى هذا أنه متعدد، ومعنى أنه متعدد أن هناك شيئا آخر غير الوجود به يكون التعدد والتفرقة، ولما كان الوجود هو كل شيء."
    وهذه الحجة هي نفس ما نراه عد المتأخرين من القائلين بوحدة الوجود، ولعل برمنيدس يكون أقرب الفلاسفة المتقدمين إلى مذهب وحدة الوجود كما نراه عند ابن عربي والقونوي والنابلسي وغيرهم ممن يقول به من الإسلاميين.
    ثم قال: "وإذن فالوجود هو الكل، وهو واحد وهو ثابت وهو أزلي وهو أبدي ، والآن فما هو الفكر، إن الفكر لا يمكن أن يكون غير الوجود، والوجود الذي يعقل ذاته هو أيضا وجود، فالوجود والفكر إذا، أو الوجود والماهية كما سيقال فيما بعد، شيء واحد."اهـ.
    إن هذه الفكرة هي فكرة أصيلة في مذهب وحدة الوجود، وبها أخذ المتأخرون والمتقدمون منهم، من ابن عربي إلى الملا صدرا، والقونوي، حتى الفلاسفة الأوروبيون القائلون بوحدة الوجود مثل هيجل فقد قالوا بها أيضاً.
    لقد جمع هؤلاء بين الفكر والوجود بل جعلوا الفكر مرتبة من مراتب الوجود، والله عند المتأخرين تجلى بمظاهر الممكنات نتيجة تجلي معلوماته في عين ذاته.
    نعم نحن نجد في ما نقل من كلام عن هؤلاء المتقدمين من الفلاسفة أنهم يقصدون بالوجود الوجودَ المادي المحسوس، وأحياناً يريدون المعقول، وهم في ذلك كمثل الفلاسفة المتأخرين، نحو سبينوزا الذي قال بوحدة الوجود المادية فهو من الذين ألهوا الطبيعة، وقريب منه برمنيدس هذا، وإن تحدث عن الوجود من حيث هو عقل ومجرد.
    وغيره طبعوا الإله، فجعلوا الإله عين الطبيعة !! ولله في خلقه شؤون، فالخلق خلق والحق حق.
    ولذلك قال بدويعن برمنيدس ص125: "وخلاصة ما نقوله نحن هو أن الوجود عند برمنيدس ليس هو الوجود الحسي، كما أنه ليس الوجود المنطقي الصرف، بل هو وجود حاول صاحبه أن يرتفع به عن الوجود الحسي، لكن درجة التجريد، فيما يتصل بالوجود لم تكن كافية لكي تجعل من هذا الوجود وجوداً لا حسياً أو وجوداً منطقياً."اهـ.
    وحق له أن يكون كذلك عند برمنيدس، فإن الفكرة لم تكن بعد قد تخمرت في أذهانهم، وإن كان من أتى بعده قد صرف قدرا عظيما من طاقاته الفكرية ليختارَ أحد الجانبين، أعني الحسي أو العقليَّ، والبعض منهم مزج بينهما في مذهب واحد ونظرة عقلية واحدة صرفة، وكل منهم له طريقة تناسبه.

    فلاسفة العصور الوسطى
    قال عبدالرحمن بدوي في كتابه خريف الفكر اليوناني في ص163: "والطبيعة تنقسم عند رجال العصور الوسطى إلى طبيعة فاطرة وطبيعة مفطورة، والطبيعة الأولى هي الله الذي يخلق الأشياء، والأشياء المخلوقة هي الطبيعة الخارجية، ولكن اسبينوزا يقول إن الطبيعة الفاطرة هي الجوهر، والطبيعة المفطورة هي أحوال الجوهر وصفاته الذاتية."اهـ.
    واصطلاح اسبينوزا يطابق مفهوم وحدة الوجود الذي يقول به بعض الصوفية، إلا أن اسبينوزا يميل إلى وحدة الوجود المادية، وهؤلاء يميلون إلى وحدة الوجود المجردة.
    وقال بدوي في ص165: "ثم يلاحظ من ناحية أخرى أن هؤلاء الفلاسفة السابقين على سقراط لم يضعوا تفرقة بين الله والطبيعة، بل تصوروا أن الطبيعة هي الله، والله هو الطبيعة، وهذا المذهب هو المذهب المعروف باسم مذهب وحدة الوجود، panthiesme من المقدم pan أي كل، والكلمة ثيوس أي الله، ومذهب وحدة الوجود يقول إنه لا شيء إلا الله، وأن كل الأشياء الأخرى ليست غير مظاهر خارجية وأحوال لله، وعلى هذا الأساس قام مذهب اسبينوزا الذي يرى أن الله هو الكل ويسميه الجوهر، وينظر إلى الجوهر أو الله من ناحيتين:ناحية الفكر وناحية الامتداد، أي أن الله شيء واحد يظهر على صورتين صورة الامتداد أي المادة وصورة الفكر أي الروح، وإما أن يكون هذا المذهب هو القول بأن لا شيء إلا العالم وأن الله ليس شيئا آخر غير العالم كله، والطبيعة أو العالم الذي هو الكل هو المادة التي هي روحية في الآن نفسه.
    وممن تصوروا أو آمنوا بمذهب وحدة الوجود على هذه الصورة ديدرو ثم الطرف اليسار من المدرسة الهيجلية، ومذهب وحدة الوجود ينقسم إلى قسمين وحدة وجود باطنة ووحدة وجود صدورية، أما وحدة الوجود الباطنة فهي التي تقول بأن الله حال في الكون، أما وحدة الوجود الصدورية فهي التي تقول بأن المبدأ تصدر عنه الموجودات أو الله تصدر عنه المخلوقات، وهذا الصدور لا يمس جوهر الله مطلقا. ,قد كان هذا النوع موجودا خصوصا عند الأفلاطونية المحدثة، أي عند مدرسة الإسكندرية، ووحدة الوجود الباطنة هي ما يسمى تقريبا باسم الحلول ولو أن الحلول فكرة دينية وليست فكرة فلسفية بالمعنى الحقيقي، ومن هنا جاء الاختلاف الدقيق بين كلتا الكلمتين وحدة الوجود والحلول.
    وإذا قلنا إن المبدأ الحال في الكون واحد فحينئذ يمكن أن نسمي وحدة الوجود باسم الواحدية monism ، وهذه الكلمة أول من قالها هو فولف المتوفى سنة 1754، وقد عنى بها المذاهب التوكيدية التي تقول بأن جوهر العالم واحد، وعلى هذا تنقسم هذه المذاهب إلى قسمين: تلك التي تقول بأن هذا الجوهر الواحد هو المادة كما يفعل المذهب الواحدي، أو أن هذا الجوهر الواحد هو الروح كما يفعل المذهب الروحي أو المثالي، وهيجل يعرِّف المذهب الواحدي بأنه المذهب الذي يوحد بين الموضوع ونقيض الموضوع وعن طريق مركب الموضوع. وهذا المركب موضوع هو الفكرة المطلقة أو الروح الكلية عند هيجل. ويطلق على هذا الأساس مذهب الواحدية على المذاهب الحديثة التي تأثرت بالمذهب أو الفلسفة الهيجلية، فمذهب برادلي يسمى أيضا باسم المذهب الواحدي لأنه يقول بأن العالم عقلي وأن الكون واحد، وأن الله هو الكون وأن المادة ظاهرة وأن الحوادث ليست إلا مظاهر فحسب، وبهذا ينكر الفردية وينكر الاختلاف.
    والمذهب الذي يضاد مذهب برادلي هذا هو المذهب الذي يقول بالفردية والكثرة والاختلاف،وهو المذهب المعروف باسم مذهب التعدد، وأشهر رجاله في العصر الحديث وليم جمس."اهـ.
    وقد سقت هذه الفقرة لتوضيح حقيقة وحدة الوجود وبعض من قال به من القرون المعاصرة، وعلى أي معنى قالوا به، وإنني أرى أنه لا اختلاف كبيراً بين أقوال القائلين بوحدة الوجود علىاختلاف مفاهيمها عندهم، وبين المعاصرين.

    اسبينوزا
    سوف أهتم هنا ببيان رأي اسبينوزا الفيلسوف الأوروبي المعاصر اليهودي الأصل، في هذه المسألة، والسبب في ذلك أنه تميز برأي من بين فلاسفة أوروبا، يستحق أن يلتفت إليه، وبالنسبة لبحثنا هذا، فإنه قريب وفي غاية القرب منه.
    لقد أراد والده أن يصير حاخاما يهوديا، كما قال يوسف كرم في تاريخ الفلسفة الحديثة ص106: "ولكن داخله الشك في الدين فعدل عن مشروعه، وتحول إلى العلوم الإنسانية، وأخذ يتردد على الأوساط البروتستانتية، فلقي فيها طبيباً تيوصوفيا من القائلين بوحدة الوجود لقنه الطبيعة والهندسة والفلسفة الديكارتية".اهـ .
    وقال كرم في ص107: "يتم عرض مذهبه بتلخيص ثلاثة من كتبه هي إصلاح العقل، والأخلاق، والرسالة اللاهوتية السياسية، وأصحها كتاب الأخلاق، فإنه جامع يلخص الكتب السابقة ويكملها، وقد نهج فيه المنهج الهندسي وهو المنهج اللائق بمذهب وحدة الوجود الذي ينزل من الواحد إلى الكثير."اهـ.
    إن أهم كلمة تدور حول فلسفة اسبينوزا هي كلمة الجوهر، وتنبني عليها مفاهيم أخرى عنده هي الصفة والعَرَضُ، وهو يعني بالجوهر كما قال وِلْ ديورانت في قصة الفلسفة ص 216: "إننا لو قارنا الآن تقسيمه للعالم إلى جوهر وعرض مع تقسيمه له في كتابه إصلاح العقل إلى نظام أبدي للقوانين وعلاقات ثابتة من جهة، والنظام المؤقت للأشياء الزائلة من جهة أخرى، فإن هذا يسوقنا النتيجة وهي أن سبينوزا يعني بالجوهر هنا تقريبا ما قصده بالنظام الأبدي هناك.
    فلنعتبر ذلك كعنصر واحد في كلمة الجوهر وبهذا فإنه يشير إلى بناء الوجود في ذاته الكامن تحت كل الأشياء والحوادث، والذي يشير إلى لب العالم. ولكن سبينوزا يمثل الجوهر بالطبيعة والله، وهو يتصور الطبيعة أو الكون ذات مظهرين فهي فعالة حيوية بالطبيعة من جهة، وهي منفعلة مخلوقة من جهة أخرى، وإن هذا الجانب المنفعل هو المادة وما تشتمل عليه الطبيعة الخارجية من غابات، وهواء وماء وجبال وحقول وعشرات الألوف من الأشياء الخارجية، وهذه الطبيعة كلها من إنتاج الجانب الفعال وخلقه، وعندئذ يكون في الكون قوة خالقة تخلق الأشياء وهي التي يسميها (جوهر وهي الله) وفيه أشياء مخلوقة وهي الأعراض أو العالم.
    ومن هذا يتضح لنا أن سبينوزا يقسم الكون إلى جوهر وعرض، إلى قديم وحادث، إلى الله والعالم المحسوس، أما الجوهر أو الله فهو حقيقة لا مادة لها، بخلاف عالم الأشياء، وقد يساعدنا المقطع الآتي علىتوضيح فكرة سبينوزا: (إني أتصور الله والطبيعة في صورة تختلف تماما عن الصورة التي ي صورها المسيحيون المتأخرون عادة، لأنني أعتقد أن الله هو الأصل وليس الطارئ، وأن الله هو السبب لجميع الأشياء، أقول:إن كل شيء كامن في الله، وكل شيء يحيا ويتحرك في الله، وإنني متفق في هذا مع الرسول بولس، وربما أكون متفقا مع كل واحد من فلاسفة القديم، على الرغم من أن طريقتي تختلف عن طريقتهم، وقد أجرؤ على القول أن رأيي هو نفس الرأي الذي جاء به العبرانيون في القديم، على كل حال لقد أخطأ فهمي أولئك الذي يقولون إن غرضي هو أن أبين أن الله والطبيعة شيء واحد، والقائلون بهذا يفهمون من لفظ الطبيعة كتلة معينة من المادة المجسدة، إنني لا أقصد ذلك."اهـ.
    هو لا يقصد ذلك لأنه يعني بالله مجرد القوانين التي تحكم هذه الطبيعة الظاهرة، وهو ما نبه إليه ول ديورانت في أول كلامه، ثم قال ديورانت:"وهو يكتب مرة ثانية عن الدين والدولةSad إنني أقصد بمساعدة الله نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغير، أو سلسلة الأحداث الطبيعية)، إن قوانين الطبيعة العامة وأوامر الله الخالدة شيء واحد، وإن كل الأشياء تنشأ من طبيعة الله اللانهائية كما ينشأ من طبيعة المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين، وإن الله بالنسبة إلى العالم كقوانين الدوائر بالنسبة إلى الدوائر كلها، فالله هو السلسلة السببية الكامن وراء كل الأشياء، وهو قانون تركيب العالم، وهذا الكون المتماسك من الأعراض والأشياء من الله بمثابة الجسر من تصميمه وبنائه وتركيبه، والقوانين الرياضية والمبكانيكية التي بني عليها."اهـ.
    ففلسفته إذن توحيد بين الله وبين العالم الموجود في الخارج، نعم ليس الله عنده جزءا من مادة العالم، بل هو روح العالم وقوانينه. وهذه هي وحدة الوجود التي قال بها اسبينوزا. وكذلك قال د.حسن حنفي في كتابه (في الفكر الغربي المعاصر) ص 69: "إن الله هو الطبيعة الطابعة والعالم هو الطبيعة المطبوعة"، "إن قدرة الطبيعة هي قدرة الله، وقدرة الله مماثلة لماهيته"، هذه هي أهم فكرة في فلسفة سبينوزا.
    وقد لخص يوسف كرم في كتبه (تاريخ الفلسفة الحديثة) تلخيصاً جيداً فلسفة اسبينوزا في الله والطبيعة، وحاصل ما ذكره في ص 111 أن الجوهر علة ذاته، أي ماهيته تنطوي على وجوده، أن الجوهر لامتناهي، إذ لو كان متناهيا لكان متصلا بجواهر أخرى تحده وكان تابعا لها متصورا بها لا بذاته، وأن الجوهر واحد: "إذ لو كان هناك جوهران أو أكثر لكان كل جوهر يحد الآخر ولبطل أن يكون الجوهر جوهرا أي متصورا بذاته، وعلى ذلك فالجوهر موجود بالضرورة أو واجب الوجود، سرمدي لا يكون ولا يفسد، فإذا وجد شيء عداه لم يمكن أن يكون هذا الشيء إلا صفة للجوهر الأوحد أو حالا جزئيا يتجلى فيه الجوهر، وبعبارة أخرى إن الجوهر هو الطبيعة الطابعة أي الخالقة من حيث هو مصدر الصفات والأحوال، وهو الطبيعة المطبوعة أي المخلوقة من حيث هو هذه الصفات والأحوال أنفسها."اهـ.
    هذه الفقرة توضح بالضبط المراد من وحدة الوجود عند سبينوزا، وهي كما ترى مطابقة لمفهوم وحدة الوجود عند النابلسي وابن عربي، إلا ما فيها من ميل إلى الوحدة المادية، بخلافها عند هيجل الفيلسوف الألماني المشهور، فالحوادث هي مجرد أعراض حقيقية على الجوهر الواحد الذي هو الموجود الوحيد.
    هيجل
    قال يوسف كرم في تاريخ الفلسفة الحديثة في ص275: "يأخذ هيجل على فخته أن المنطق عنده هو الأنا يحدث اللاأنا يحدث الأنا لكي يتغلب عليه مجهود حر: فالمطلق أحد طرفي التضاد، فهو ليس مطلقاً، ويأخذ على شلنج أن المطلق عنده هو الأصل المشترك المتجانس للأنا وللاأنا تتحد فيه الأضداد جميعا ولكن المطلق بهذا الوصف هو أصل مجرد، هو أشبه شيء بالليل تبدو فيه جميع البقر سودا، لا يكشف لنا عن السبب الذي من أجله يصدر عنه العالم ولا كيف يصدر، أما هيجل فيتفق معهما في وحدة الوجود، ويرى أن المطلق هو الوجود الواقعي بما في من روح لا متناه أو مثال أو عقل كلي أو مبدأ خالق منظم، وأن الطبيعة والفكر حالان له، يظهر الفكر في وقت من أوقات تظور الطبيعة، لا أنهما وجهان له متوازيان."اهـ.
    وتساءل حسن حنفي في كتابه (في الفكر الغربي المعاصر) ص 158: "هل فكر هيجل فلسفة أم دين؟ إذا نظرنا إلى العدد الهائل من التحليلات التي يقدمها هيجل للمفاهيم وللتصورات وللأفكار، تداخلها وتخارجها وتوسطها لوجدنا أنها فلسفة، بل وفلسفة غارقة في التجريد والمذهبية ولكننا إذا نظرنا إلى مضمونها وإلى مسارها العام، وجدناها لا تفترق عن الدين بوجه عام، ون المسيحية بوجه خاص، حتى إنه يمكن القول بأن فلسفة هيجل دين مُقَنَّعٌ."اهـ.
    وهذا الكلام يثبت لنا أن فلسفة هيجل التي كانت صورة عن وحدة الوجود متأثرة تمام التأثر بالديانة المسيحية، ولكنه بدل أن يعتبر المسيح فقط هو الله، صار عنده الوجود كله عين الله، وما في الوجود من أشياء فإنما هي اعتبارات فكرية لله أو للوجود. قال حسن حنفي في ص186:" الدين المطلق هو نهاية تطور الأديان كلها وهو في رأي هيجل الدين المسيحي أو دين الوحي أو الدين الذي يتكشف، فهو الدين المطلق لأنه استطاع أن يتجاوز حسية الدين الطبيعي وماديته كما استطاع أيضا أن يتعدى صورية دين الفردية الروحية وضرورياتها، وهو دين الوحي لأنه هو الوحيد في رأي هيجل، الذي تلقى رسالة من السماء أي إنه دين الكلمة."اهـ.
    وإذا عرفنا ذلك، عرفنا لماذا تأثر بعض الغربيين المتبعين للفيلسوف هيجل بمذهب وحدة الوجود كما قال به الإسلاميون، ففلسفة هيجل مأخوذة من الدين المسيحي، بصورة أو أخرى، ولما كان بعض هؤلاء يدرسون اللاهوت المسيحي، وتعرفوا على عقيدة وحدة الوجود كما قال بها ابن عربي وأتباعه، أحب بعض هؤلاء هذه العقيدة واعتبروا أنفسهم تابعين لابن عربي، وهم في الحقيقة تابعون لهيجل وللدين المسيحي. قال حسن حنفي في ص190"كانت مهمة هيجل كلها هي الدفاع عن المسيحية وتبريرها عقلا كما كان يفعل فلاسفة العصر الوسيط."اهـ، وقال في ص234:"ومن ناحية أخرى يتهم هيجل الإسلام والمسلمين بالتعصب وبالحماس الأعمى لموضوع مجرد سلبي مما تضح في الحروب والفتوح حتى أصبح المبدأ لديهم هو الدين والإرهاب، كما كان المبدأ عند روبسبير الحرية والإرهاب."اهـ
    ولنستمع إلى ما يقوله الدكتور زكريا إبراهيم وهو من أهم من كتب عن هيجل في كتاب كبير سماه (هيجل أو المثالية المطلقة)، فقد قال في ص36: "والظاهر أن عقلية هيجل الشاب قد وقعت في تلك الآونة تحت تأثير بعض النزعات التأليهية الطبيعية، إن لم نقل بعض الاتجاهات القائلة بوحدة الوجود."اهـ.
    وقال في ص37: "ثم كانت صداقة هيجل لكل من هلدرلن وشلنج فلم يلبث فيلسوفنا أن اتجه إنحو عبادة اليونان، كما انحاز إلى المذاهب الواحدية القائلة بضرب من الحقيقة الإلهية الشاملة."اهـ.
    ثم تكلم زكريا إبراهيم عن قصيدة كتبها هيجل ووصفها في ص47: "ومن الآثار التي خلفها لنا هيجل أيضا في هذه الفترة قصيدة أهداها إلى هلدرلن بعنوان إلوزيس، وهي قصيدة صوفية يتغنى فيها هيجل بروعة ذلك الكل الذي هو مستغرق فيه مأخوذ بسحره، مذهول لسره، ولئن كان بعض النقاد حاول أن يخلع عن هذه القصيدة كل طابع صوفي، خصوصا وأن هيجل نفسه كان قد ألغى بجرة قلمه بعض أبيات منها كانت تتضمن معاني الوجد الصوفي، إلا أن من المؤكد أن في هذه القصيدة إيمانا ضمنيا بوحدة الوجود ونشوة دينية هي نشوة العابد المستغرق في حب الله."اهـ.
    وقال في ص61: "وليس الواقع في نظر هيجل مجرد مجموعة من الموجودات المنفصلة، بل هو حقيقة كلية أو مبدأ واحد يطوي في ثناياه كل ما في الوجود من كثرة."اهـ.
    وهذا هو ملخص لعقيدة وحدة الوجود. "ولكن الارتداد إلى الكل أو إلى الوحدة لا يتحقق إلا عبر الإنسان".اهـ، وهو عين ما يقوله أهل الوحدة من الإسلاميين، وأرى أنه لا بد أن يكون هيجل قد تأثر كغيره بالإسلاميين، وهو أمر غير بعيد، فقد حصل ذلك لبعض أهم الفلاسفة مثل ديكارت، وليبنتز، وغيرهم.
    إذن هيجل كانت فلسفته مثبتة لوحدة الوجود المتأثرة بالمسيحية، واسبينوزا يدعي أن فلسفته في وحدة الوجود ممثلة للديان

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مارس 28, 2024 6:05 pm